نظام الملك: وزير النهضة الإصلاحية

نظام الملك: وزير النهضة الإصلاحية

تُعد شخصية الوزير السلجوقي نظام الملك (408 هـ 1017 م – 485 هـ 1092 م) مجهولة نسبياً في أوساط الجماهير حالياً كما كان ذلك في الجيل السابق، حيث يعود الفضل لبعض الأفلام والمسلسلات التاريخية في التعريف بهذه الشخصية الكبيرة، وبالرغم من ذلك فلا يزال هناك نقص كبير في الربط بين نهضة عصر صلاح الدين وبين إصلاحات ومدارس الوزير نظام الملك، حيث لا يزال الغالبية من الناس يتخيلون أن ظهور القائد الرباني هو الحدث الفيصل والأمر الحاسم في نهضة الأمم، وهذا على خلاف ما هو معروف في أحداث التاريخ، إذ إن ظهور شخصية القائد إذا لم تتزامن مع وجود جيل مستعد للنصر فلن يعدو قائداً مثالياً منبوذاً، أو يتم اعتباره سابقاً لعصره في أحسن الأحوال. 

وكما كان للمسلمين قيادة فكرية تعمل للنهضة بطريقة علمية، فقد كان هناك أيضاً للصليبيين مبادرة إصلاح فكري بقيادة البابا أوربان الثاني، والذي قدم نموذجاً لمشروعٍ صليبي، حيث استطاع أن يجمع فيه طاقات جماهير ودول أوروبا بأسرها. كما كان الباطنيون هم أيضاً يعملون ليلاً ونهاراً لبث أفكارهم بقيادة حسن الصباح، والذي ولسخرية القدر كان صديق طفولةٍ للوزير نظام الملك. فمن هو الوزير الإصلاحي المسلم نظام الملك؟ ولماذا قام بإطلاق حملة إصلاح نهضوية كبرى على مستوى العالم الإسلامي؟ وكيف تمكن من النجاح في ذلك؟

الحركات الباطنية في عصر العباسيين

حتى نهاية العصر الأموي، لم تكن الوزارة أكثر من وظيفة كاتب وأمين سر للخليفة وسُميت “وزارة التنفيذ”، حيث كان أشبه بالمساعد الذي يعيّنه الخليفة بغير صلاحيات كبيرة ممنوحة إليه، ولكن في عصر الخلافة العباسية، ونظراً للحاجات الجديدة المتسعة في الدولة، وأيضاً لضرورة توزيع السلطات والصلاحيات، فقد ظهرت وزارة التفويض، وهي التي يفوّض فيها الخليفة كثيراً من صلاحياته بشكل حقيقي للوزير، وخاصة على صعيد السياسة الداخلية، وقد أدى هذا النظام في بعض الأحيان إلى عجز الخلفاء العباسيين عن تسيير أمور الدولة، كما فعل الوزراء البويهيين الشيعة الذي سيطروا على الخليفة العباسي ولم يتركوا له من أمر نفسه شيئا، كما تسببوا كثيراً بنشر الفتن الطائفية بين السنة والشيعة في بغداد وحلب ومجمل البلاد التي حكموها

ظهرت دولة السلاجقة الأتراك في ظروف صعبة كان يمرّ بها العالم الإسلامي في المئة الهجرية الرابعة بين تمزّق ونفوذ للحركات والدول الباطنية والهدامة، حيث انتشرت الأفكار الشعوبية لدى بقايا بعض الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم، فعلموا على إنشاء العديد من الدويلات التي حاولت تقويض أمجاد الإسلام مثل القرامطة وحركة الحشاشين الإسماعيلية، وتعد الدولة الفاطمية بأسرها نموجاً مأساوياً لما يمكن أن تصل إليه مثل هذه الحركات إذا تحولت إلى دولة كبيرة تدعي حمل أمانة الخلافة الإسلامية، فقد كان للدولة الفاطمية دور كبير في تسهيل وصول طلائع الحملات الصليبية، والأخطر هو عملهم ضرب العقيدة الإسلامية الصحيحة وإثارة الفتن على مدى أكثر من قرن من الزمن.

في هذه الظروف بدأت دولة السلاجقة مسيرتها في شرق العالم الإسلامي بالتخلص عسكرياً من هذه الحركات والدول الضالة المضلة، وبعد معركة ملاذكرد ضد الروم أصبحت دولة إقليمية كبرى لها نفوذها الكبير في العالم الإسلامي، أصبح لها حظوة كبرى في بلاط الخلافة العباسية، وقد كان بعض وزراء الدولة السلجوقية على نظام الوزارة التفويضية، فقد كان بعضهم يحكم بصلاحيات تصل تقريباً إلى ما يماثل صلاحيات خليفة، وكان الوزير نظام الملك لاحظ أن الهجوم العسكري وحده لا يكفي للتصدي لهذه الحركات الباطنية، وأنه لا بد أيضاً من الهجوم العلمي والفكري، فقرر إطلاق حملة نهضوية كبرى على مستوى تاريخ العالم الإسلامي، بحيث بقيت نبراساً تحتذي به كافة الدول الإسلامية التي تلته.

نشأة نظام الملك وأسرته

نشأ نظام الملك يتيم الأم في مدينة طوس، واسمه الكامل هو قوام الدين أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي، وقد كانت عائلته سابقاً تعمل في حكومة الدولة الغزنوية، وأحياناً حتى في مناصب عالية مثل الوزارات، لكن نشأة نظام الملك الفقيرة أعطته دافعاً كبيراً لطلب العلم في سبيل رفع منزلته وإعادة أمجاد أسرته، فقرأ القرآن وهو ابن إحدى عشر سنة، وأشغله أبوه بالفقه الشافعي وقراءة القراءات وسماع الحديث الشريف واللغة والنحو، وقد أكثر في فترة شبابه من التنقل في العراق وخراسان لسماع الحديث، كما لم يغفل تعلم الكتابة والحساب ليشتغل بالدواوين.

وقد اكتسب الخبرة الإدارية وظهر نبوغه من العمل بالدواوين، وكان أيضاً يتقن العربية والفارسية، وهذا بالفعل قد أهّله للترقي في مناصب الدولة السلجوقية التي ورثت الدولة الغزنوية والتي عمل أيضاً في دواوينها، فوصل إلى الوزارة السلجوقية في عهد السلطانين ألب أرسلان وملك شاه، حيث استمر في المنصب لثلاثين سنة، وقد تميز عن غيره من وزراء السلاجقة والعباسيين بأنه لم يكن رجل دولةٍ مخلص وكفؤ فقط، بل كان رجلاً تاريخياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فأسّس مشروعاً نهضوياً امتدت فوائده وبركاته الجمة حتى يومنا هذا. ولم يقتصر نفوذه على السلطان السلجوقي، بل كان له أيضاً نفوذ واسع لدى الخلفاء العباسيين نظراً لحرصه على الإصلاح بينهم وبين السلاطين السلاجقة.

منجزات الوزير نظام الملك

إنه لمن الصعب حصر منجزات الوزير نظام الملك، حيث سنحاول الاقتصار على ما تميز به عن غيره من الوزراء السلاجقة، حيث كانوا في غالبيتهم مخلصين وذوي صلاحيات ونفوذٍ واسعين، وقد كانت منجزات نظام الملك على النحو التالي:

– تأسيس خطة استراتيجية على مستوى الدولة السلجوقية والخلافة العباسية، لتعمل على النهوض بالأمة الإسلامية فكرياً وعقدياً وحضارياً، وذلك بعد قرن من الانتكاسات والهزائم بسبب حكم الدويلات والحركات الباطنية الهدامة.

– تأسيس عشرات من المدارس الإسلامية السنية المذهب في خراسان والعراق والشام، وقد سُميت بالمدارس النظامية، وذلك لتخريج كبار القادة والجنود والعلماء والمصلحين والقضاة، ولإطلاق جيل جديد يقوم بإصلاح الفساد وإطلاق الجهاد في سبيل الله من جديد.

– استحداث نظام الإقطاع العسكري بدلاً من نظام العطاء، وقد كان لهذا النظام دور كبير في تحفيز قادة الجيوش والجنود على الارتباط بالأرض من غير أن يظلموا الفلاحين وأصحاب الأرض الأصليين، وهو نظام مختلف عن نظام الإقطاع العسكري الأوروبي الذي حوّل الفلاحين إلى عبيد.

– تأليف كتاب سياسة الملوك “سياسه نامه” والذي وضع فيه خلاصة علومه وخبراته، وقد تحول الكتاب إلى نبراس تهتدي به سلاطين الدولة السلجوقية وغيرها من الدول الإسلامية التي تلتها مثل الدولة الزنكية والدولة الأيوبية ودولة المماليك.

– رد المظالم وإقرار العدل ونشر القضاة العدول في أرجاء الدولة السلجوقية، حيث لم يقتصر فقط على نشر العدل عملياً، بل كان يقوم أيضاً بنشر ثقافة العدل وترسيخها في الدولة والمجتمع عبر المدارس النظامية التي أنشأها وأنفق الكثير على استدامتها.

– العمل على تأليف قلوب المسلمين باختلاف مذاهبهم، حيث تمكن من إطفاء نار الفتنة التقليدية بين الأشاعرة والحنابلة، فعلى الرغم من كونه شافعياً وأشعرياً فقد كان يقدّر لكل أهل مذهب قدرهم، كما كان موقع منصبه معبراً عن التئام هذه الخلافات واتحاد المسلمين في سبيل العمل لمصلحة المسلمين، فقد كان الخليفة عربياً حنبلياً والسلطان السلجوقي تركياً حنفياً، وكان هو وزير سني فارسي أشعري شافعي.

اهتمامه بالعلم والعلماء

عُرف الاهتمام بالعلم والعلماء عبر العصور الإسلامية بأسرها، لكن لا يكاد يوجد سلطان أو وزير اهتم بهم بقدر ما اهتم بهم الوزير نظام الملك رحمه الله، فقد كانت رسالة حياته وجلّ اهتمامته هو إنشاء جيوش كبرى من العلماء وطلبة العلم لتنشر العلم والنور في الدنيا وتقضي على الجهل والظلمات والأفكار الظلامية والفرق الضالة والمنحرفة، وقد تميّز بأنه أول من أعطى للطلاب الرواتب والطعام لتشجيعهم على الانتساب للمدارس النظامية. كما قام بإنشاء الكثير من الأسواق والمزارع الوقفية لتدر أرباحها في نفقات هذه المدارس، وبذلك فقد نجح في تأسيس نظام تعليمي نهضوي مستدام، حيث تتلمذت عليه أجيال بعد أجيال من العلماء مثل أبو حامد الغزالي والشيخ عبد القادر الجيلاني وغيرهم، وذلك حتى طرد آخر جندي صليبي وهزيمة فلول التتار بعد قرنين من الزمن.

ولم يقتصر دعمه فقط للعلوم الشرعية واللغوية، فقد قام باستقدام الشاعر والفلكي عمر الخيام وكان صديقه في الطفولة، وبنى له المراصد الفلكية المتقدمة، فأثبت بذلك أيضاً أنه يدعم العلوم الدنيوية والتكنولوجية، وهي ضرورية كشرط من شروط النهوض الحضاري، من اللافت أن نظام الملك أنه كان لديه ميول للحكام الفرس الساسانيين الجيدين تاريخياً والذين عُرفوا بالعدل بين الرعية، ولكنها هذه الميول كانت ضمن المشاعر العرقية الطبيعية، حيث كان يضعها في إطار إسلامي سني طبيعي جداً، مع إثبات الكثير من الحرص على خدمة الخلفاء العباسيين ومحاربة التشيع وربطه بالمذهب المزدكي الهدام الذي ظهر في المملكة الفارسية الساسانية وتم القضاء عليه.

كانت سيرة حياته بالعموم يغلب عليها الأخلاق الحسنة والاهتمام بالعبادة والتقرب إلى الله، فقد كان يصوم الإثنين والخميس ويكثر من الصدقة ويكثر من إجراء الأعطيات للفقراء، إلا أنه في أواخر عهده قد أكثر من تسليم المناصب لأولاده وأتباعه مما أدى بهم للاستئثار بشؤون الدولة، وهذا أوقعه في حرج كبير وخلافات مع السلطان وكثر حسّاده والوشاة به، وقد توفي غيلة على يد الإسماعيلية من شدة حقدهم عليه وعلى إصلاحاته التاريخية الكبرى.

المراجع:

1. الوزير نظام الملك ودوره في الحياة العامة في الدولة السلجوقية. هاني أبو الرب 2007.

2. دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي. د. محمد علي الصلابي 2006.

3. الوزير السلجوقي نظام الملك. هيفاء عبد الله العلي البسام 1980.