من هو ألب أرسلان؟

من هو ألب أرسلان؟

اسمه محمد بن السلطان جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن تُقاق بن سلجوق التركماني، ويكنّى بـ”أبي شجاع”، ويلقّب بـ”عضد الدولة” و”السلطان الكبير” و”الملك العادل”، ويُعرف باسم “ألب أرسلان” أي الأسد الضاري. 

عرفت الدولة السلجوقية في عهده توسّعًا كبيرًا وانتصارات غير مسبوقة، واستعملت نفوذها وسطوتها لمساندة الخلافة العباسية في بغداد.

نشأته

وُلد السلطان أرسلان سنة 420هـ للحاكم السلجوقي جغري بك داود بن ميكائيل الذي ساعد أخاه طغرل بك في تأسيس الدولة السلجوقية وتقوية أركانها، وكان داود خيّرًا عادلاً، مشهورًا بحُسن سيرته وصفاء سريرته.

صعوده إلى الحُكم

توفّي السلطان جغري بك داود سنة 451هـ، وكان يحكم خراسان وما وراء النهر، فورثه ابنه الأكبر ألب أرسلان وحلّ مكانه على العرش باسطًا نفوذه على مُلك أبيه، وكان له إخوة هم: ياقوتي، سليمان وقاورت بك.

أمّا عمّه طغرل بك فلم يكن له وريث، فبعد أن مات أخوه داود تزوّج زوجته أم سليمان وعهِد إلى ابنها سليمان بالمُلك بعده، ولم تمضِ أربع سنوات حتى وافته المنية فمات سنة 455هـ، وانتقل الحُكم إلى سليمان برعاية وزير طغرل بك عميد الملك الكندري.

لم يرض أرسلان بما حدث، فانطلق إلى مدينة الري عاصمة السلاجقة آنذاك عازمًا على إجبار أخيه سليمان ووزيره الكندري على التراجع والرضوخ، ومبايعته سلطانًا على الدولة السلجوقية بأكملها، فكان له ما أراد وأقام له عميد المُلك الخُطبة في الري. ولم يكد أرسلان يرتاح على عرشه الجديد حتى بلغه خبر خروج ابن عم أبيه قتلمش بن إسرائيل السلجوقي على طاعته، فخرج إلى لقائه مع جيشه واقتتل الطرفان في معركة حامية انتصر فيها ألب أرسلان، وقُتِل قتلمش في شهر محرم من سنة 456هـ.

كما ثار عليه عمّه فخر المُلك بيغو أكبر السلاجقة سنة 457هـ، وكان واليًا على هراة فلم يشأ أن يكون تحت حُكم ابن أخيه، فذهب ألب أرسلان مع جنوده لقتاله وهزمه هزيمة نكراء، فعاد بيغو إلى الطاعة والانصياع.

سماحة لابنة الخليفة زوجة طغرل بك بالعودة إلى بغداد

تزوّج طغرل بك سنة 454هـ بابنة الخليفة العبّاسي القائم بأمر الله طمعًا في مصاهرة بيت الخلافة، لكن زواجه بها لم يدم طويلاُ فقد مات عنها بعد سنة فقط من عقد القران.

ولمّا تولّى ألب أرسلان مقاليد الحُكم أذِن للسيدة ابنة الخليفة أن ترجع إلى بغداد وتعود لأهلها سنة 456هـ، وأرسلها في موكب فخم برفقة بعض القضاة والأمراء، ففرح الخليفة بذلك وأمر بالدعاء للسلطان أرسلان في الخطب وجلس للناس جلوسًا عامًا يأخذ له البيعة، وأرسل إليه الخِلع والتقليد مع نقيب العباسيين طراد بن محمد الزيني، ولُقّبه بـ”ضياء الدين عضد الدولة”. 

توسع الدولة السلجوقية على يديه

كان ألب أرسلان سلطانًا عادلاً وسياسيًا محنّكًا وقائد حرب ذا عزم وإقدام، وكانت أولويته بعد تولّي الحكم هي تثبيت أركان دولته وتقوية دعائمها، فأمضى سبع سنوات يجوب أرجاءها لتفقّد الأحوال والتأكد من خضوع كل المناطق لأمره. وعندما اطمأن من تمكّن حكمه في جميع الأقاليم التابعة له، بدأ يخطّط لفتح البلاد المسيحية المجاورة لأراضيه وإسقاط الخلافة الفاطمية العبيدية لتوحيد العالم الإسلامي بأكمله تحت راية الخلافة العباسية والسلطة السلجوقية.

فتح أرمينيا وأذربيجان وجورجيا

سنة 456هـ، انطلق السلطان ألب أرسلان مع جيشه من الري عاصمة السلاجقة، وكان عازمًا على فتح أرمينيا لحماية دولته من البيزنطيين، فلما وصل إلى مرند –الواقعة في أذربيجان حاليًا- التقى بأحد الأمراء التركمان، واسمه طغدكين، سار معه وأراه الطريق التي يسلكها حتى يصل إلى نقجوان، وهناك أتاه الخبر بأنّ سكّان بعض المناطق الأذربيجانية أعرضت عن اتّباع سلطانه، فأرسل إليهم عميد خراسان يدعوهم للطاعة ويتوعّدهم إن أعلنوا المعصية، فأذعنوا له وانضموا إلى صفّه.

ثم سار مع عسكره إلى بلاد الكُرج –جورجيا الآن- وعيّن ابنه ملكشاه مكانه ومعه وزيره نظام الملك، فانطلقا على رأس الجيش، فقادوا المسلمين لقتال النصارى وتوغّلوا في بلادهم فاتحين قلاعًا وحصونًا كثيرة، وكاسبين مغانم لا حصر لها.

ثم أكمل ألب أرسلان وجيشه المسير حتى وصلوا إلى مدينة آني الأرمنية، فوجدوها حصينةً منيعة، حاولوا التضييق عليها بالحصار لكن دون جدوى، فأمر السلطان أرسلان جنوده بإنجاز برج خشبي شَحَنه ونَصَب عليه المنجنيق، فكُشف عن السور واستطاع المسلمون نقبه وهدموا قطعة منه تمكّنوا من الدخول عبرها، ففتحوا المدينة وبسط السلطان السلجوقي نفوذه على تلك المنطقة وأسرع الرُسل بنقل بشائر النصر والفتوحات إلى مقر الخلافة في بغداد.

الاستيلاء على حلب والرملة وبيت المقدس

تلقى السلطان ألب أرسلان رسالة من ناصر الدولة الحسين بن الحسن الحمداني أحد أبرز القادة في القاهرة يطلب فيها عونه للقضاء على الدولة الفاطمية العبيدية وإعلاء راية الدولة العباسية السنية، ففرح بذلك أرسلان لأنه توافق مع طموحه في ضم أراضي الشام ومصر إلى دولته.

خرج أرسلان على رأس جيشه من خراسان متّجها إلى بلاد الشام لإخضاعها قبل متابعة المسير إلى مصر، وأغار على شمال الشام لمحاصرة الدولة المرداسية في حلب التي كانت على المذهب الشيعي، ولم تُقِم الخطبة للخليفة العباسي إلا عندما رأى حاكمُها محمود بن نصر المرداسي قوّةَ السلاجقة وبطشهم بأعدائهم.

لما وصل السلطان أرسلان إلى حلب، ردّ عليه محمود المرداسي بأنه دخل في طاعة العبّاسيّين، لكن أرسلان اشترط عليه أن يحضر للقائه ويدوس على بساطه كعلامة على خضوع حلب للنفوذ السلجوقي. امتنع محمود المرداسي من ذلك فحاصر السلطان المدينة واشتدّ النزاع حتى أذعن محمود بن نصر وخرج للقاء السلطان وإعلان طاعته.

بعد استسلام حلب سنة 463هـ، اتجه السلطان أرسلان للقتال في بلاد ما وراء النهر تاركًا جزءً من العسكر في الشام تحت إمرة قائد الترك أتسِز بن أوق الخوارزمي، وأذن لهم بخوض المعارك ضد الفاطميين، فانتزعوا الرملة وبيت المقدس وحاصروا يافا حتى هرب حاكمها.

معركة ملاذكرد

لم يَخْفَ على الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينيس التقدم الذي حققه السلطان أرسلان في بلاد الكُرج (جورجيا) وأرمينيا وأذربيجان، فقرّر أن يبادر إلى قتاله لكسر سطوته، فخرج مع جيش من مئتي ألف جندي من الروم والروس والكرج والفرنجة والبشناق وغيرهم من النصارى وتوجّهوا إلى ملاذكرد.

كان السلطان أرسلان في مدينة خُوَي الأذربيجانية حين علم باقتراب الروم، وكان معه من عسكره خمسة عشر ألف فارس فقط ولم يكن بإمكانه طلب المدد من المناطق الأخرى بسبب ضيق الوقت وبُعد المسافة، فسار بمن معه من الجنود وقال لهم: “إنني أقاتل محتسبًا صابرًا، فإن سلمتُ فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإنّ ابني ملكشاه وليّ عهدي”.

وقعت المعركة الأولى حين التقى جيش السلاجقة بمقدّمة جيش الروم وكان فيها نحو عشرة آلاف من الجنود معظمهم من الروس، فاقتتلوا وهزم المسلمون أعداءهم وأسروا عددًا كبيرًا من قادتهم. ثم أرسل السلطان أرسلان إلى الإمبراطور رومانوس يطلب منه الهدنة ويعرض عليه المصالحة، لكنه رفض وأبدى عزمه على استمرار القتال، ولما علم السلطان بذلك انزعج لعلمه باختلال موازين القوة بين الجيشين، فقال له إمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري: “إنّك تقاتل عن دينٍ وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون فيها الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة”.

أعدّ المسلمون أنفسهم لخوض المعركة الفاصلة، ولما حلّ يوم الجمعة صلّى بهم السلطان أرسلان ودعا الله متضرّعا باكيًا، وقال: “نحن مع القوم تحت الناقص، وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي يُدعى فيها لنا وللمسلمين على المنابر، فإما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيدًا إلى الجنة، فمن أحبّ أن يتبعني منكم فليتبعني ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحبا، فما هاهنا سلطان يأمر ولا عسكر يُؤمر، فإنما أنا اليوم واحد منكم وغازٍ معكم، فمن تبعني ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة أو الغنيمة، ومن مضى حقّت عليه النار والفضيحة”.

أعلن الجنود اتّباعهم لأمره وانصياعهم لطاعته، فلبس البياض وقال: “إن قُتلتُ فهذا كفني”، ثم انطلق يقاتل النصارى، وقبل أن يلقاهم نزل عن فرسه ومرّغ وجهه بالتراب ودعا الله تعالى، ثم ركب ومضى إلى ساحة القتال.

 أيّد الله تعالى المسلمين بنصره، فهزموا الروم رغم كثرتهم وقتلوا منهم ما لا يُحصى من الجنود، وأسروا مَلكهم، لكن السلطان أرسلان وبّخه لعدم قبول الهدنة وأطلق سراحه مقابل فدية قيمتها ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار (أي مليون ونصف قطعة ذهبية)، وتقديمه العهد بعقد صُلح لمدة خمسين سنة، وإرسال عساكره لدعم جيش السلاجقة كلما تطلّب الأمر ذلك، وإطلاق سراح أسرى المسلمين في بلاد الروم.

عندما وصلت أخبار الهزيمة إلى القسطنطينية، انقلبت أسرة دوكاس على رومانوس وعيّنت مكانه ميخائيل السابع إمبراطورًا على العرش البيزنطي، ولما سمع رومانوس بذلك أعلن الزهد وجمع كل ما لديه من المال فلم يبلغ سوى ثلاثمئة ألف دينار، وأرسل بها إلى السلطان أرسلان معتذرًا عن عجزه على سداد كل المبلغ.

لقد كانت معركة ملاذكرد نقطة تحوّل فاصلة في التاريخ الإسلامي والبيزنطي على حد سواء، لأنّها قرّرت مصير آسيا الصغرى بنجاح المسلمين في التوغّل والانتشار في أراضيها، فتغيّرت الحدود التقليدية بين الكيان الإسلامي في الشرق والمسيحي في الغرب، وفقدت الدولة البيزنطينية هيبتها ومكانتها كحامية للعالم النصراني، ممّا مهّد لنهايتها على يد الأتراك العثمانيين بعد ذلك.

صفاته وأخلاقه

السلطان ألب أرسلان من أعظم ملوك الإسلام وأبرز أبطالهم، كان شُجاعًا باسلا في الحروب، وقائدًا محنّكًا ذا دهاء وذكاء، اشتهر برحمته التي شملت القريب والبعيد والعدوّ والصديق، وعُرِف بكرمه الوافر وبرّه البالغ، فقد كان كثير الصدقات على الفقراء، كثير الهدايا إلى الأغنياء، حَسَن السيرة مع العامة والخواص، لم يزده المُلك إلا قُربًا من الله تعالى وخضوعًا إليه واعترافًا له بجزيل النعم، وقد دانت له البلدان حتى لقّب بـ”سلطان العالم”.

يقول عنه الصلابي في كتابه “دولة السلاجقة”: “وكان حريصًا على إقامة العدل في رعاياه وحفظ أموالهم وأعراضهم، بلغه أن غلامًا من غلمانه أخذ إزارًا لبعض التجار، فصلبه فارتدع سائر المماليك به خوفًا من سطوته، وكتب بعض السعاة في نظام المُلك –وزيره- فاستدعاه وقال له: إن كان هذا صحيحًا فهذّب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن لم يكن صحيحًا فاغفر لهم زلّتهم بمُهمّ يشغلهم عن السعاية بالناس.”

وعلّق ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” عن هذه الحادثة قائلاً: “وهذه حالة لا يُذكر عن أحد الملوك أحسن منها”، وأضاف في وصف السلطان أرسلان: “وكان كثيرًا ما يُقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم، وأحكام الشريعة، ولما اشتهر بين الملوك حُسن سيرته، ومحافظته عهوده، أذعنوا له بالطاعة والموافقة بعد الامتناع، وحضروا عنده من أقاصي ما وراء النهر إلى أقصى الشام”.

  • تمثال ألب أرسلان في مدينة ملاذكرد, تركيا
  • تمثال ألب أرسلان في مدينة ملاذكرد, تركيا

وفاته

في بداية سنة 465هـ، قصد السلطان ألب أرسلان ما وراء النهر على مقدّمة جيش يضم أكثر من مئتي ألف فارس، وعندما مرّ على نهر جيحون أتاه أصحابه بمستحفظ قلعة اسمه يوسف الخوارزمي كان قد ارتكب جريمة في أمر الحصن، فأمرهم السلطان بتقييده وشدّ أطرافه إلى أربعة أوتاد، ثم تعذيبه وقتله، فقال له يوسف: “يا مخنّث، مثلي يُقتل هذه القتلة؟”، فاشتاط السلطان غضبًا وأخذ قوسه وسهامه وأمرهم بفكّ وثاقه، ورماه بسهمه لكنه أخطأه، وكان قلّما يخطئ رميه، فانطلق إليه يوسف، فقام إليه السلطان وتعثّر ووقع على وجهه، فضربه يوسف بسكين كانت معه، ولمّا جُرح السلطان قال: “ما من وجه قصدته، وعدوّ أردته، إلا استعنتُ بالله عليه، ولما كان أمس صعدتُ على تل، فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر، فقلتُ في نفسي: أنا ملك الدنيا، وما يقدر أحد علي، فعجّزني الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله تعالى، وأستقيله من ذلك الخاطر”.

توفّي السلطان ألب أرسلان في العاشر من شهر ربيع الأول، وحُمِل إلى مرو ودُفن عند أبيه، وخَلَفه ابنه ملكشاه على المُلك.

المصادر

كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير.

كتاب تاريخ دولة السلجوق للأصفهاني.

كتاب دولة السلاجقة للدكتور علي محمد الصلابي.