هو السلطان الأشرف أبو النّصر قانصوه ذو أصل شركسي. أبصر النور سنة (850هـ/1446م). كان عبدا للأشرف “قايتباي” وتابعا له، ثم أعتقه. وقبل أن يصير رئيسًا لعشرة كانت سِنُّه تزيد عن الأربعين، وبعد ذلك تمّت ترقيته بسرعة إلى قيادة “طرسوس” و “حلب” و “ملطية”، بعدها تقلَّد العديد من المناصب حتّى أصبح رئيس الوزراء ثمّ بويع بالسلطنة وتولّى حكم مصر سنة 1501م.
سلطنته
بعد خلع “طومان باي”، أجمع قادة المماليك على اختيار قانصوه الغوري كبديل له، فقد كان آنذاك ذو مكانة مرموقة حيث كان يشغل كل من الدوادارية الكبرى والوزارة والاستادارية وكشف الكشاف عند العادل، وكان الغوري من ضمن الأمراء المقدمين الذين اجتمعوا لاختيار السلطان الجديد. ولم يكن اختيارهم له إلا لكبر سنه، كما أنّه لم يمتلك أدنى طموح سياسي، الأمر الذي يجعل مسألة خلعه لصالح أحدهم سهلة، فحملوه مكرها وأجلسوه على العرش وهو يبكي، فاشترط عليهم ألا يقتلوه إذا أرادوا خلعه فوافقوا على ذلك ونصبوه سلطانا، وأقسموا له على الإخلاص في خدمته، وكان يبلغ من العمر حينها 60 عامًا.
بدأ حكمه كالمعتاد بطرد شيعة “طومان باي”، ولِما كانوا خطرا يهدد العرش قبض عليهم فسجن بعضا منهم ونفى البعض الآخر، وقام بمصادرة أملاكهم. ثم وهب الحرية والقوة للحزب المعادي لهم، وعينهم في الوظائف. وقد وُجد “طومان باي” في مختبئه يُدبّر المكائد للسّلطان الجديد. وبعد بضعة أسابيع خانه أصدقاؤه وقتلوه. وبهذا نجا الغوري من الخطر دون إثارة الكراهية نحوه.
وعندما زال الخطر الذي كان يهدّده وقتئذٍ، التفت إلى تدبير موارد الدولة وأراد أن يملأ الخزينة، ففرض ضرائب اجبارية على كلّ أنواع الممتلكات وكانت نسبتها تبلغ ما يساوي دخل مدّة تتراوح بين سبعة أشهر وعشرة، ولم يستثني أملاك الوقف أو الخيرات.د، ولم يعرف هوادةً ولا رفقًا في سبيل جباية هذه الضريبة، ليس من اليهود والنصارى فحسب، بل من كلّ الطبقات، فولّد ذلك الثورات في المدينة، وصار جامع الضرائب في القاهرة يُرشق بالحجارة، وقد ذُبح حاكم دمشق في إحدى المشاجرات.
وعلى ما كان يجبى من ضرائب التّجارة المرهقة والبضائع، نقُصت قيمة العملة الفعلية، وقد ارتأى أحد المستشارين قصيري النظر فرض ضريبة على المماليك، فوافقه السّلطان عليها أولًا، ولكنه أسقطها عنهم عندما ثار ثائرهم وأزعجوه، ولم يكتف باسقاطها بل سمح بقطع لسان مبتدعها الذي جُرِّد مم ثيابه ووُضِع على جملٍ وشُهِّر، ثمّ تمّ جلده ورجمه حتّى أشرف على الهلاك. وفي هذا دليل واضح على الوحشيّة السّائدة آنذاك وعلى غلظة كبد السّلطان.
أمّا الأموال التي جُمعت من النّاس فكانت تُصرف بسخاء، في أوّل الأمر على المماليك الذين ساعدوا في جمعها، ثمّ بعد ذلك على شراء عدد كبير من المماليك الذين كان يثق بهم السلطان كثيرًا، لأنهم حديثو عهد بالبلاد.
ثمّ صرف كثيرًا من المال على الإصلاحات العامّة، وتحصين الإسكندرية ورشيد وغيرهما، وعلى المجاري وقنوات المياه بمصر، وبناء مسجد فخم ومعهد في القاهرة، وإقامة مباني جديدة في القلعة وكانت وقتذاك تُحاط بالأشجار والأزهار الواردة من سوريا.
كذلك كان يصرف مبالغ طائلة على تجميل مكّة وزيادة المياه في طريق الحجاج، وعند الأماكن المقدّسة، ولكن كلّ هذه النفقات لم تكن شيئا مذكورًا بجانب فخامة بلاط الغوري.
وقد ظلَّ هذا البلاط على أحسن ما يكون من فخامة، فقد تمّ استعمال الذَّهب الدَّقيق الصُّنع ليس في مائدة السّلطان فحسب بل في كامل أرجاء القصر بما في ذلك المطبخ. إلى جانب احتشاد البلاط الملكي بالمغنين والموسيقيين والشُّعراء والقصّاصين الذين نعموا على حساب الفقراء واليتامى.
وصفه
تذكر المصادر التاريخيّة بأنّه كان طويل القامة، غليظ الجسد، ذا كرش كبير، أبيض البشرة، مُدوّر الوجه، مُشحم العينين، جهوري الصوت، مُستدير اللحية، ولم يظهر بلحيته الشّيب إلّا قليلًا، وكان ملكا مهيبًا جليلا ً مبجلًا في المواكب، وكان يميل إلى الأبهة في ملابسه ومواكبه، فقال عنه ابن إياس: “وكان يلبس في أصابعه الخواتم الياقوت الأحمر والفيروز والزمرد والألماس وعين الهر”.
كما كان مُولعًا بشمّ الرائحة الطيبة من المسك والعود والبخور، وكان ترفًا في مأكله ومشربه وملبسه، ويحب رؤية الأزهار والفواكه، ويحب غرس الأشجار، ويملك شغفًا كبيرًا للرياضات، وسماع الأطيار المغردة، وكان يستعمل طاسات من الذهب يشرب فيها الماء، كما اشتهر بكونه نهمًا في الأكل. جلُّ هذه الصّفات تدلُّ على الولع بالجمال، والاِستمتاع بالعيش.
حبه للموسيقى والغناء
كان الغوري مولعا بالموسيقى والغناء وذو معرفة واسعة بهما. ويُروى أنّه إذا أراد أن يستريح من عناء الملك خرج لروضته وأحاط نفسه بالمغنين والعازفين، كما كانوا يرافقوه في أسفاره، ويقول ابن إياس في ذلك: “وفي يوم الأحد وهو يوم عاشوراء، نزل السلطان وتوجه إلى نحو المقياس، وجلس في القصر الذي أنشأه هناك، وكان معه جماعة من الأمراء، فأقام هناك إلى قريب المغرب وانشرح في ذلك اليوم إلى الغاية، ومد هناك أسمطة حافلة، وأحضر بين يديه مغاني وأرباب آلات، ثمّ إنَّ شخصًا مضحكًا يُقال له علي باي، الذي يعمل عفريتا في المحمل، قام فرقص، ثمّ سحب الوالي كرتباي فرقَّصه، ثمّ سحب أمير آخور ثاني آقباي الطويل فرقَّصه، ثمّ سحب بركات بن موسى المحتسب فرقصه، ثمّ سحب عبد العظيم الصريفي فرقَّصه، وكان جسيمًا، فضحك عليه السّلطان، ونثروا بين يديه أشياء من أنواع الورد والزهر والفاكهة ومجامع الحلوى، فتخاطف ذلك المماليك، وابتهج في ذلك اليوم”.
ألعابه
كان الغوري يحب اللهو بنطاح الثيران والكباش فنجد ابن إياس يذكر ذلك في حوادث ربيع الآخر عام 918: “وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه كان ختام ضرب الكرة بالميدان، وكانت جماعة من هؤلاء القصاد حاضرين، فلمَّا انتهى ضرب الكرة قام السلطان وطلع إلى الحوش وجلس بالمقعد، وأحضروا قُدّامه ثيرانا يتناطحون وكباشا”.
كما أنّ السّلطان كان مواظبًا على لعب الكرة، كما جرت عادة ملوك مصر والدّول الإسلاميّة، فنجد في حوادث كلِّ سنة من تاريخ ابن إياس: “وفي يوم كذا… بدأ السلطان بضرب الكرة، وفي يوم كذا… كان ختم الضرب بالكرة”.
موائده
أمَّا فيما يخصُّ احتفالاته والمآدب الَّتي كان يُقيمها فوصفها ابن إياس كالآتي: “من الوقائع اللَّطيفة أنَّ في يوم الخميس ليلة الجمعة خامس عشره، نزل السُّلطان إلى الميدان، ونصب به خيمةً كبيرةً مُدوَّرة، وملأ البحرة التي أنشأها هناك من ماء النّيل، من المجراة التي أنشأها، ثمَّ رسم بجمع كل ورد في القاهرة ووضعه في تلك البحرة، وجمع قراء البلد قاطبة والوعاظ، وعلَّق أحمالًا بها قناديل، وفرش حول البحرة الفرش الفاخرة، وعزم على القضاة الأربعة، وسائر الأمراء من كبير وصغير، وأرباب الوظائف من المباشرين، وأعيان الناس قاطبة، وبات السّلطان تلك الليلة بالميدان، وبات عنده الأتابكي قرقماس، وجماعة من الأمراء. ومدَّ تلك الليلة أسمطة حافلة أعظم من سماط المولد، فمدَّ في السماط أربعمائة صحن صيني، ورسم بأن تعمل المأمونيّة الحموية وكل قطعة نصف رطل، وكان من الإوز والدّجاج والغنم ما لا ينحصر، ومن اللّحم ألف وخمسمائة رطل، ومن الدجاج ألف طير، ومن الإوز خمسمائة طير، ومن الغنم المعاليف خمسون معلوفًا، ومن الرمسان الرضع أربعون رميسا، حتَّى قِيل: صرف على ذلك السماط فوق الألف دينار، بما فيه من حلوى وفاكهة وسكر وغير ذلك، وكانت ليلة مشهودة”.
كما يُروى بأنّ أعيان الدولة كانوا يسرفون في الأسمطة التي كان يَحضُرها السلطان، فقد أدب القاضي كاتب السر محمود بن أجا للسّلطان ورجال الدولة عند مقياس الروضة، مأدبة أنفق فيها 700 دينار.
حبه للعمارة
أولى الغوري عنايةً كبيرةً لمجال العمران والبناء أثناء فترة حكمه، فقام بتشييد العديد من المباني التي لا تزال قائمةً لحدّ يومنا هذا.
مجموعة السلطان الغوري
عبارة عن مجموعة معمارية أثرية مشهورة تقع بالقاهرة، ذات طراز إسلامي، تمَّ بناؤها بأمرٍ من السّلطان الغوري. تضمُّ مجموعة من المباني على جهتين متقابلتين يفصلهما ممر ذو سقف خشبي. يقع بإحدى الجهتين مسجداً ومدرسة للعلوم الشرعية، بينما في الجهة الأخرى فتتواجد القبة الضريحية وسبيل يعلوه كتاب وخانقاه للصوفيين ومنزل ومقعد.
لا تزال هوية مهندس المجموعة الأثرية غير معروفة، إلَّا أنَّ المؤرِّخين ذكروا أنَّ الغوري قام بتعيين الأمير “إينال” بوظيفة شاد العمارة، المنصب الذي يتقلَّده من كان عارفًا بأمور العمارة والهندسة ومن اِتّصف بالصّدق والأمانة. ويُذكر أنّ الغوري قام بالإغداق على “إينال” بالعطايا كمكافأةٍ له عند الاحتفال بافتتاح المسجد.
ولِما تملكه المجموعة من قيمة فنيّة وأثريّة فقد تعرّضت لمحاولات سرقة عديدة من قبل لصوص الآثار. فعلى سبيل المثال تعرُّض باب المسجد للسّرقة في سبتمبر 2012.
وكالة قانصوه الغوري
هي وكالة تم تشييدها بطلبٍ من الغوري سنة (909هـ/1504م). تتواجد اليوم تحت عنوان “2 شارع محمد عبده المتفرع من شارع الأزهر”. تتكون من فناء مكشوف مستطيل الشكل محاط بقاعات من خمس طوابق من كل جوانبه يتم الوصول إلى الطابق الأول عن طريق سلم حجري. يوجد في الطابق الأول حوالي 30 حاملا، أما الطوابق الثلاثة العلوية فتحتوي على 29 منزلا. كان يقيم بها التجار الوافدون للقاهرة ويخزنون فيها سلعهم حتَّى يتمَّ بيعها وهي جزء من المجموعة الأثريّة التي شيَّدها الغوري.
صراعاته الخارجية
البرتغال
استطاع آنذاك البرتغاليون اكتشاف طريق رأس الرَّجاء الصالح والسَّيطرة عليه، كما طمحوا للاِستيلاء على البحر الأحمر من أجل السَّيطرة على كافة الطرق التجارية، فسيطروا على الحبشة ثمّ هاجموا سواحل مِصر والحجاز وحاولوا كسب تعاطف باقي أوروبّا بإعطاء حملتهم على المماليك بُعداً صليبياً وأعلنوا أنّ غايتهم الرّئيسيّة هي الأراضي المقدّسة في مكّة والمدينة. فأمر الغوري ببناء الحصون وارسال الحاميات البريّة إلى السّواحل لوقف البرتغاليين من التوغل في أراضي الدّولة، وبعد الانتهاء من الاستعدادات، بدأت المعارك البحريّة العنيفة بين الطرفين.
نجحت البحرية المملوكية من طرد السّفن البرتغاليّة من البحر الأحمر والاحتفاظ به، ثم تقدّمت سفن المماليك في المحيط الهندي وهاجمت القلاع البرتغالية على سواحل اليمن وعُمان وإيران وشرق أفريقيا، بعدها اتجهت نحو المستعمرات البرتغالية في الهند فقامت بدعم حاكم كجرات الهندية الموالية للمماليك، فتمكنوا من هزيمة البرتغاليين في معركة شاول سنة 1508م، إلّا أنّ البرتغاليين استطاعوا استجماع قواهم وقاموا بمواجهة المماليك وسحقهم في معركة ديو سنة 1509م، فقامت القوات المملوكيّة بالانسحاب والاكتفاء بالسيطرة على البحر الأحمر.
الدولة العثمانية
منذ النّصف الأوّل من القرن الرابع عشر بدأت الدّولة العثمانيّة باكتساب نفوذ واسع. ومع مرور الوقت، بدأ العثمانيون بالتوغل في المنطقة حتّى استولوا على منطقة آسيا الصغرى بأكملها، وتُوِّجت انتصاراتهم بفتح عاصمة الدولة البيزنطية، القسطنطينية سنة 1453م، من قبل السّلطان محمد الفاتح.
في بادئ الأمر، اِتّسمت علاقة دولة المماليك مع الدولة العثمانيّة بالودّ حيث تحالف الطرفان لحماية السيادة المملوكيّة في البحر الأحمر ضدّ الخطر البرتغالي الصليبي. كما تحالفا ضدّ غارات المغول بقيادة تيمورلنك. إلّا أنّه سرعان ما بدأ التّوتر يسود بينهما خاصّةً مع اقتراب حدود الدّولة العثمانيّة من أملاك المماليك.
الدولة الصفوية
أمّا فيما يخصُّ الدّولة الصفويّة فقد قامت بمهاجمة حامية ملطية الخاضعة لحكم المماليك سنة 1507م، فلم يدع الغوري الأمر يمر ُّمرور الكرام، فجمع ما يقارب 1500 من قواته استعدادا لقتال الصفويين.
وقبل أن يخرج جيش الغوري من القاهرة، وصله رُسلٌ مبعوثون من طرف الشَّاه إسماعيل الصفوي، يُبلغونه اعتذار الشاه عمّا حصل، زاعمًا أنَّه كان خطأ. كما أنَّ هيئة الرُّسل الريفيّة وهم بداخل قصر القاهرة الفخم، دفعت بالغوري لإهمال أمر الصفويين.
زاد التوتر فيما بعد بين الشّاه إسماعيل والسّلطان سليم الأوّل وبدأت الحرب بينهما تلوح في الآفاق، فراح كل منهما يستميل السّلطان الغوري لجانبه، إلّا أنَّ الأخير التزم الحياد.
تمكَّن العثمانيّون لاحقًا من هزيمة الصفويين في معركة جالديران عام 1514م، كما قاموا بمهاجمة وإبادة إمارة ذو القدر التّابعة للمماليك، مما أدَّى لزوال كلِّ الدُّول العازلة للمماليك عن العثمانيّين.
وفاته (معركة مرج دابق)
على إثر المناوشات السَّابق ذكرها بين الدولة المملوكيّة والدولة العثمانيّة، لم يكن أمام السّلطان الغوري حلًا آخر غير اللجوء للمواجهة العسكريّة، فتقابل الجيش المملوكي بقيادة الغوري والجيش العثماني بقيادة سليم الأوّل في منطقة مرج دابق بالشام في أغسطس 1516م.
تلقى الجيش المملوكي هزيمة نكراء نتيجة لعدة أسباب، أهمها خيانة بعض القادة المملوكيين للغوري مثل خاير بك، بالإضافة للتفوق العسكري للجيش العثماني.
لقي السّلطان الغوري حتفه في ساحة هذه المعركة، إذ أنه كان يمتطي فرسه ويشجّع في جنوده لرفع همتهم، حتّى سقط من على خيله، وتختلف المصادر في تفسير ما حلَّ بجثمانه، فيذكر البعض بأنّه تمّ أخذ رأسه للسّلطان سليم، بينما يذكر البعض الآخر بأنّ أحد جنوده قام بدفن رأسه لكي لا يتمَّ التّعرف على جثمانه.
عندما تُوفي الغوري كتب عنه ابن إياس شعرا، فقال:
والأشرف الغوري كان مليكنَا
لكنّه قد جَار فِينا وافترَى
والموتُ أوجبَ هزمه مع جيش
قد كانَ ذلك في الكِتاب مُسطرا
أعماله ردّت عليه بما جنَى
والدَّهر جازاه بأمر قُدِّرا
المصادر
-“مجالس السلطان الغوري” لعبد الوهاب عزام.
-“تاريخ دولة المماليك في مصر” للسير ويليام موير.
-“دولة المماليك: البداية والنهاية” للدكتور إناس حسني البهجي.