معركة جالديران بين الصفويين والعثمانيين

معركة جالديران بين الصفويين والعثمانيين

تعتبر هذه المعركة من أهم المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، فهي ليست مجرد معركة بين مذهبين أو دولتين مختلفتين في المذهب، كما أنها أيضاً ليست مجرد صراع وتنافس على قيادة العالم الإسلامي مثل ما حصل بين العثمانيين والمماليك. ومن الضروري أولاً توضيح أن هذا المقال هدفه السرد التاريخي ولا يهدف للانتصار لمذهب على حساب آخر، فقد كانت الدولة الصفوية متطرفة وليست فقط شيعية المذهب، تماماً مثل حال دولة داعش التي كانت مشكلتها أنها متطرفة وأضرت بالمسلمين من كافة المذاهب والطوائف.

وبناءً على ذلك، فقد كان انتصار الدولة العثمانية أمراً محمود وعاد بالفائدة على مجمل الإسلام والمسلمين من مختلف الطوائف، فقد كانت نسخة المذهب الشيعي التي تبنّته الدولة الصفوية متطرفة وتكفيرية للغاية، كما أنها قامت بنشر هذا المذهب المتطرف بالإكراه، وقامت بتحويل غالبية الشعب الإيراني من المذهب السني للمذهب الشيعي الاثني عشري بشكله المتطرف بالقوة، ثم بدأت تتمدد في العراق ومناطق الأناضول، وشكلت بذلك خطراً جديداً على الدولة العثمانية والشعوب العربية بمذهبها السني بشكل عام.

قيام دولة الصفويين

كانت بداية قيام دولة الصفويين في بلاد فارس ناتجة عن سقوط الدولة التيمورية والسلالة المغولية في إيران، حيث قامت سنة 1501م، وقد بدأت كدعوة صوفية سُميت الطريقة الصفوية، وكان مؤسسها هو صفي الدين الأردبيلي 1252–1334م والذي تحول للمذهب الشيعي، ومع ذلك بقي يتظاهر بأنه سني شافعي المذهب لبعض الوقت. كما كانت الدولة أيضاً تنطلق من فكرة تأسيس القومية الإيرانية على الرغم من اختلاف أصول أتباعها بين أذريين وأكراد وفرس، وقد التحق بهم أيضاً بقايا الفاطميين والحشاشين. ثم قامت الدولة على يد الشاه إسماعيل الأول أحد أحفاد المؤسس صفي الدين، وذلك بمعونة من القزلباش الصفويون، وهي مجموعة من الجنود الشيعة الذين اعتمدت عليهم الدولة الصفوية في تأسيسها وتوسعها، والتي كانت في البداية مجرد ولايات محلية تمكنت من السيطرة عليها في دولة واحدة.

كانت معظم فتوحات الدولة العثمانية بعد فتح القسطنطينية تقع في أوروبا الشرقية حتى وصلت إلى حدود فيينا عاصمة الامبراطورية النمساوية، لكن توسع الدولة الصفوية في العراق وتطلعها للتوسع في شرق الأناضول، بالإضافة إلى توددها مع البرتغاليين والإسبان باعتبارهم قوى أوروبية جديدة وصاعدة بعد انتهاء عصر الحملات الصليبية، كل ذلك جعل الدولة العثمانية تنهي فتوحاتها في أوروبا وتتجه شرقاً نحو الدولة الصفوية بهدف إنقاذ نفسها والعراق وباقي العالم الإسلامي، فتسببت الدولة الصفوية بذلك ضياع فرصة تاريخية محتملة بفتح باقي دول أوروبا.

توسع الصفويين في العراق

تضمنت مبادئ الدولة الصفوية تحويل الشعوب التي حكمتها من فرس وغيرهم إلى المذهب الشيعي الاثناعشري المتشدد بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، وكانت عائلة الشاه الصفوية تهدف من ذلك لتمييز دولتها عن الدولة العثمانية وتشكيل هوية تجعل الشعب يشعر بالنفور من العثمانيين، وقد شمل ذلك أيضاً تدمير مساجد السنة وإجبار الخطباء في المنابر على شتم الصحابة رضوان الله عليهم، ثم تم الأمر بإهدار دماء وأموال من يبقى على المذهب السني، ثم دعوة جميع الشيعة في العالم الإسلامي للهجرة إلى الدولة الصفوية والعيش فيها، كما تشير بعض المراجع إلى السبب الحقيقي هو إعادة أمجاد الامبراطورية الساسانية والثأر من الفتح الإسلامي لبلاد فارس.

استولت جيوش الشاه إسماعيل الأول على بغداد في سنة 1508 م، وبشكل مثير قامت باضطهاد وقتل السنة وتدمير المعالم الإسلامية السنية، وقامت بإعدام علماء السنة الذين وقفوا ضد هذه الإجراءات، وقد وصل عدد من قلتهم الشاه إلى حوالي المليون مسلم، وبالطبع كان هناك غليان شعبي ورد فعل عنيف ضد هذه الإجراءات الهمجية من قبل الدولة الصفوية. وأمام هذه المصائب العظيمة لم تعد الدولة العثمانية تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي، وقررت التصرف، وكان هذا بداية صراع تاريخي ممتد بين الدولتين.

مقدمات معركة جالديران

نتيجة انتشار عشرات الألوف من دعاة الدولة الصفوية للدعوة لها بين الناس في شرق الأناضول ثم قيامهم بثورة ضد العثمانيين، اضطر السلطان العثماني سليم الأول للقبض عليهم وإعدامهم، وكان هذا ليس لأن مذهبهم هو التشيع، ولكن لأنهم تآمروا مع الدولة الصفوية ضد الدولة العثمانية بقيادة شاه قولي ونور علي. كما استمر الشاه الصفوي بالاستيلاء على الأقاليم الكردية المتاخمة للدولة العثمانية مثل ديار بكر، فأرسل السلطان سليم إلى الشاه إسماعيل رسالة يدعوه فيها للعودة إلى دين الإسلام الحق قبل أن يعلن عليه الحرب، فرفض الشاه ذلك بشدة وأرسل للسلطان سليم رسالة فيها إهانة حيث كانت عبارة هدية من الأفيون المخدر، ولم يتأخر السلطان سليم في الرد عليه برسائل أخرى سخر فيها من الشاه، وبدأ على الفور بإعداد الجيوش لمعركة كبرى فاصلة، ولكن الشاه كان يماطل حتى يدخل فصل الشتاء، لأنه سيجعل مهمة الجيش العثماني أكثر صعوبة.

هنا قرر السلطان سليم الاستعجال بالحرب ودخول بلاد الصفويين لإجبارهم على خوض المعركة قبل قدوم الشتاء، وكان رد فعل الشاه الصفوي بارداً، حيث ظل يحاول المماطلة وطلب الصلح وإرسال رسائل ناعمة، وقد كان السلطان سليم مدركاً لهذه الألاعيب، فواصل المسير حتى دخل الأراضي الصفوية، فأدرك الشاه خطورة الموقف واضطر للمواجهة.

كان الجيش الصفوي لم يسبق له أن خسر أي معركة من قبل، وكان شديد الحماس بسبب الإيمان بعقيدته المتطرفة، ومع ذلك فقد كان الجيش العثماني أكثر عدداً وأفضل تسليحاً وتنظيماً، بالإضافة إلى الإيمان بالعقيدة الإسلامية الصحيحة. كما كان يقاتل بالبنادق والمدافع التي كانت في بواكير ظهورها في الحروب، ولم يكن لدى الجيش الصفوي مثل هذه الأسلحة، بل كانوا حتى يحتقرونها. وبالفعل فقد كان لهذه الأسلحة دور كبير في جعل الهزيمة ساحقة في طرف الصفويين برغم استبسالهم وبلائهم العسكري المتميز.

مجريات معركة جالديران

تعتبر هذه المعركة مهمة جداً ليس فقط في سياقها التاريخي والديني، بل أيضاً في الجانب العسكري وفي التسليح، فهي من المعارك القليلة في التاريخ التي تشهد التقاء جيشين بفارق نوعي واضح في مستوى تكنولوجيا الأسلحة، حيث قام العثمانيين بوضع مدافعهم أعلى التلال المطلة على ساحة المعركة، كما استخدموا البنادق قبل التحام الصفوف، مما جعل خسائر الصفويين هائلة.

بعد مسير طويل أنهك الجيش العثماني، حيث اضطر فيه لشيء من التمرد، وصل الجيش الصفوي إلى صحراء جالديران وقد بلغ تعداده حوالي 60 ألف مقاتل، فتوجه الجيش العثماني أيضاً إلى هناك سنة 920 هـ 1514م وقد بلغ تعداده إلى حوالي 120 ألف مقاتل، وعلى الرغم من كون الغلبة حصلت بداية الأمر للصفويين بسبب تعب وإنهاك الجيش العثماني، إلا أن استعمال الجيش العثماني للسلاح الناري أدى إلى تسريع نهاية المعركة بشكل ساحق لصالح العثمانيين، وقد هرب الشاه الصفوي بعد أن كاد يُقتل.

في نهاية المعركة توجه الجيش العثماني إلى عاصمة الصفويين “تبريز” ودخلها من غير مقاومة في نفس السنة، حيث استطاع كثير من أهل السنة الذي اضطروا للاختباء والتخفي من الظهور بشكل علني في احتفال مهيب ومشهود، ولكن لم يتمكن العثمانيين من التوغل أكثر في الأراضي الصفوية، ولا حتى من البقاء طويلاً في تبريز بسبب قلة المؤن الناتج عن اتباع الصفويين سياسة الأرض المحروقة، وأيضاَ بسبب سخط وإنهاك الجيش العثماني من المكون الانكشارية، فاكتفى السلطان سليم بهذا النصر، مما أدى إلى بقاء الدولة الصفوية وتأجيل الصراع إلى وقت لاحق.

نتائج معركة جالديران

كانت نتائج هذه المعركة كبيرة ومدوية، فعلى الرغم من عدم تمكن العثمانيين من إسقاط دولة الصفويين، إلا أنهم حققوا الكثير من أهداف هذه الحملة بشكل رئيس، ومن أهمها ما يلي:

انضمام شمال العراق وأقاليم ديار بكر وإمارة ذي القدر للدولة العثمانية.

تأمين حدود الدولة العثمانية من الجهة الشرقية عسكرياً وكذلك مذهبياً.

انتصار الاعتدال المذهبي والإسلام بشكل عام، الذي كان متمثلاً بالمذهب السني المعتدل.

انتهاء فتوحات الدولة الصفوية العسكرية، حيث توقف توسعها بعد ذلك.

فقدان سيطرة الدولة الصفوية على العراق، وإعلان حاكمها الولاء للدولة العثمانية.

انتهاء أسطورة القائد الصفوي الذي لا يُقهر في أعين القزلباش، حيث كانوا على وشك أن يعبدوه.

تطلع الدولة العثمانية لضم المزيد من الأراضي والمناطق الجنوبية والأقاليم العربية خصوصاً الخاضعة لدولة المماليك.

تعمق العلاقات بين الصفويين والبرتغاليين، حيث وصلت إلى درجة التحالف الرسمي.

قيام حكم ذاتي مستقل داخليا للأكراد في شمال العراق.

المراجع:

1. العلاقات السياسية بين العثمانيين والصفويين منذ قيام الدولة الصفوية حتى معركة جالديران – د. نايف عيد السهيل.

2. تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية، الحرب والسلام بين العثمانيين والصفويين – د. عباس اسماعيل صباغ. ص 128-132.

3. كتاب الدولة العثمانية – عوامل النهوض وأسباب السقوط. د. علي الصلابي. 177-184.