سليم الأول: غازي الشرق

سليم الأول: غازي الشرق

نشأته

السلطان سليم خان الأوَّل بن بايزيد بن مُحمَّد الفاتح العُثماني، يعد تاسع سلاطين الدولة العثمانية، والخليفة الرابع والسبعين للمسلمين. والدته عائشة قلبهار خاتون. كان أول من يحمل لقب “أمير المؤمنين” من العثمانيين، وكنَّاه الأتراك ب”القاطع” أو “الشجاع” لما عرف به من بسالة وشراسة في ساحات الحرب. أما الإنجليز فكانوا يطلقون عليه لقب “سليم العابس” بسبب تعابير وجهه المُتَجهِّمة طوال الوقت. وقد تغيرت جهة الفتوحات من الغرب الأوروبي إلى المشرق العربي في فترة حكمه.

ولد سليم الأول عام 875 هـ، الموافق لعام 1470 م، في مدينة أمَاسيا، الأناضول. كان له ستة أشقاء وقيل سبع
هم: شاهان شاه، عالم شاه، أحمد، كوركوت، محمد، محمود، وافتهم المنية كلهم في حياة والدهم، عدا ثلاثة، هم
سليم وأحمد وكوركوت. عين سليم واليا على طرابزون أما كوركوت وُلي على ساروهان وأحمد وُلي على أماسيا، وكان
ابن سليم سليمان قد تولى حكم كافا وابن أحمد وُلي على بولو.

حكمه لطرابزون

تولَّى سليم الأول منصب والي سنجق طرابزون عندما كان لا يزال بعمرِ الحادية عشرة سنة، ذلك لأن السلطان بايزيد
أراد من أبناءه اكتسابَ الخبرة الإدارية والعسكرية في سن يافع. امتدت فترة حكمه من سنة 1481 م حتى 1510 م،
سعى فيها لتوطيد علاقات الدَّولة العثمانية مع الدول المجاورة.

أثناء فترة حكمه لطرابزون لاحظ ميل التركمان (يشكلون عماد الدَّولة العثمانية) إلى الدَّولة الصَّفوية وحكَّامها،
بسبب سخطهم من سياسات الدولة، ولتفادي هذا الخطر الجسيم الذي كان يمكن أن يلحق بالدولة العثمانية، فقام
بتحريك التركمان في حملة عسكرية مهيبة انطلقت عام 1508 م، متجهةً نحو جورجيا ومنطقة شرق تركيا. استطاع
سليم من خلال ذلك فتح قارص وأرض روم وأرتوين وضمهم تحت حكم الدولة العثمانية. ما كان مثيرًا للاهتمام حول هذه الحملة هو تقديم سليم غنائم المعركة للجنود التركمان بدلا من إرسالها إلى بيت المال، خطوة ذكية كان يطمع سليم من خلالها لكسب قلوبهم.

عند وصول نبأ حملة سليم الارتجالية لوالده السلطان بايزيد، استشاط الأخير غضبًا واحتدم لعدم استشارة ابنه له. فذهب سليم لقصر والده وتقدم بطلب العفو منه وراح يشرح له نواياه الحسنة وراء فعلته، فأثنى عليه والده عاطرَ الثناءِ، لقيامه بهذه الخطوة المهمة التي تخدم تماسك الدولة العثمانية وتعزز وحدتها.

أسرته

زوجاته

عائشة خاتون: والدها “منليجيراي الأول”، ولدت عام 1476 م، بخانية القرم. كانت زوجة محمود ابن بايزيد الثاني
أولاً، و بعد موته تزوجت أخاه السلطان سليم الأول عام 1511 م. أنجبت كل من بيهان سلطان، حفيظة سلطان، و شاه
سلطان. توفيت عام 1539 م، بإسطنبول.

عائشة حفصة سلطان: ولدت عام 1479 م. والدة كل من السلطان سليمان القانوني، وشاهزادة أورهان شلبي،
وشاهزادة موسى، وشاهزادة كوركوت، والسلطانة خديجة خاتون، والسلطانة بايهان، والسلطانة شاه، والسلطانة
فاطمة. تعتبر أول من حمل لقب “السلطانة الأم”. توفيت عام 1534 م، وتم دفنها بإسطنبول.

أبنائه

أويس باشا: ابن السلطان سليم الأول من إحدى الجواري. تم نفيه من طرف والده خارج الدولة ولم يسمح له بالعودة.

سليمان القانوني: ولد سنة 1494 م، يعد عاشر السلاطين العثمانيين. ثاني من يحمل لقب “أمير المؤمنين” من آل
عثمان، وصاحب أطول فترة حكم (من 6 نوفمبر 1520 م، حتى وفاته في 7 سبتمبر سنة 1566 م). تم دفنه بمسجد
سليمان القانوني بإسطنبول.

أما بالنسبة لأولاده الآخرين، الأمير صالح، والأمير أورخان، والأمير موسى، والأمير كوركوت، فتقول المصادر التاريخية
بأنهم ماتوا وهم صغار.

بناته

خديجة سلطان: ولدت عام 1496 م، بأدرنة. تزوجت من إبراهيم باشا البرغلي. توفيت عام 1542 م، ودفنت بمسجد
سليم الأول.

بيهان سلطان: ولدت سنة 1497 م، بطرابزون. تزوجت من الداماد فرحات باشا. توفيت سنة 1559 م، و دفنت بمسجد
ياووز سليم.

شاه سلطان: ولدت عام 1509 م، بمانيسا. تزوجت لطفي باشا في سنة 1523 م، وتطلقت منه في 1541 م. توفيت
عام 1572 م، وتم دفنها بمسجد سليم الأول بإسطنبول.

فاطمة سلطان: ولدت عام 1500 م، بطرابزون. تزوجت ثلاث مرات، من أحمد باشا. توفيت عام 1573 م، ودفنت بتربة
قرة أحمد باشا.

حفصة سلطان: ولدت بطرابزون، وتزوجت أولا من أحمد باشا سنة 1512 م ولكنه توفي سنة 1516 م، فتزوجت مرة
ثانية من مصطفى باشا واليا لبوسنة، والذي توفي عام 1528 م، لم تتزوج حفصة مجددا بعدها، وماتت في
القسطنطينية ودفنت في مسجد ياووز سليم.

عصيانه للسلطان بايزيد والسباق نحو العرش

تم تعيين الأمير سليمان بن سليم والياً على “كافا” من قبل جده السلطان بايزيد الثاني، القرار الذي لم يتقبله سليم
الأول ورفض حجته رفضًا باتًا، فأرسل بطلب لأبيه يدعوه لتعيينه في أحد الولايات الأوروبية. لكن السلطان بايزيد ظل
متمسكًا بقراره ورفض طلب سليم.

في تلك الأثناء، كانت شكوك “أحمد” تتزايد حول رغبة أخيه سليم في الاستِيلاء على عرش الدولة العثمانية، فقاد
جيشه نحو القسطنطينية، ليستعرض قواه وقدراته الحربية أمام والده وإخوته.

حين درى سليم بفعلة أخيه أثار جلبةُ وعصى والده، وسار بجيشٍ من عشائرِ التتارِ إلى بلاد الروملي، وكردٍ على ذلك،
أرسلَ بايزيد جيشًا لإرعابِ اِبنه، لكِّن سليم كان مصممًا على سفكِ الدماءِ، فأُجبرَ على قبولِ مطلبهِ الرئيسِي، وقام
بتعيينه واليًا على “سمندريه” و”ڤيدن” في الصرب، وأمر بعدم السماح لاِبنه أحمد بالدخول إلى العاصمة مخافة أن
يُحاول اِغتياله من أجلِ العرشِ.

عقدَ السلطانُ بايزيد مؤتمر دعا فيه ديوانه لمناقشة مسألة تنصيبِ أحدِ أبنائِه خليفةً له، وقد كانت البيروقراطية
تدعمُ أحمد، فتمَّ اِختياره ليكونَ السلطانَ القادم.

اِستثارَ غضبُ سليم عند سماعهِ للخبر، وأعلن الثورة على أبيه، فقاد جيشه نحو أدرنة واستولى عليها وأعلن نفسه
سلطانًا، فأرسل بايزيد إليه جيشًا ضخمًا قام بسحقِ قوات سليم، في الثالث من أغسطس عام 1511 م، فلاذ سليم بالفرار إلى بلاد القرم. كذلك بعث بجيش آخر ليحارب ابنه “كوركوت” بآسيا الصغرى، وتمَّت الإطاحة به هو الآخر، بعدها أمر بطلب حضورِ أحمد للقسطنطينية ليتولَّى مقاليدَ الحكمِ، في اليوم الموالي تمَّ تعيينه سلطان.

بعد استيلاء أحمد على الحكم، ثارَ الإنكشارية، ورفضوا الاعتراف به سلطان وطلبوا من بايزيد أن يعفو عن سليم ويرُدَّه
لولاية سمندرية، وذلك بسبب ولائِهم له واِعتقادهم بأنَّه أجدرُ وأحقُّ أبناءِ بايزيد بالعرش. خصوصًا أنَّ أحمد كان على وفاقٍ مع حاكم الدَّولة الصفوية، الشَّاه إِسماعيل الأوَّل، فزادت شكوكهم حول محاولة الأخير التدخل في شؤون الدولة
العثمانية ونشر المذهب الشِّيعي بين الشعب، وكان سليم يشاطرهم المخاوف والرَّأي بخصوص هذا الموضوع.

بعد الضَّغط الشَّديد من قبلِ الإنكشارية، صفحَ بايزيد عن اِبنه سليم، وأعاده للسمندرية، وفي طريقه إليها، قابله
الإنكشارية باحتفالٍ كبيرٍ، وساروا به إلى القسطنطينيَّة إلى سراي السلطان، وأمروه بالتنازل عن الحكمِ لحسابِ سليم، فلم يكن أمام بايزيد خيار آخر سِوَى التنحِي عن العرش لابنه سليم، وكان ذلك يوم 25 أبريل سنة 1512 م (الموافق لـ 8 صفر 918 هـ ) وتولَّ ىسليم مقاليدَ الحكم رسميًا في الثالث والعشرين من مايو من نفس السنة.

بالرغم من كل الصعوبات والعراقيل التِّي صادفت سليم الأول في طريقه نحو الملك، إلَّا أنَّه فتك بالعرش بقوة،
بفضل إصراره وشخصيته الحادة الشرسة.

توليه الحكم ونزاعه مع إخوته

بعد تنصيب سليم الأول حاكمًا للدولة العثمانية، قام بتقديم المكافآت للإنكشارية، فلولاَ ضغوطها المستمرة على
والده بايزيد ما كان لِيُتوَّجَ سلطانًا.

وما أن تربع سليم على عرش الحكم أعلن أخاه أحمد العصيان ورفض الاِنصياع له، فأعلن نفسه حاكمًا على أنقرة،
وأرسل ولده “علاء الدين” لاِحتلال بورصة في 19 يونيو سنة 1512 م، وأخبر الوزير مصطفى باشا عن نيته في القضاء
على أخيه وتوسيع نفوذه، ووعده بمنصبٍ مرموقٍ إذا تجسس على أخيه ونقل إليه تحركاته.

في الجانبِ الآخر، أراد سليم كذلك أن يقضي على إخوته وأولادهم، كي يُنهي وجودَ أيِّ تهديد لحكمه، فعيّن ابنه
سليمان حاكمًا للقسطنطينية، وسار بجيوشه إلى آسيا الصغرى، وتتبَّع أثرَ أخِيه أحمد إلى أنقرة، لكنَّه لم يقبضْ عليه، إذ أنَّ نبأ قُدُومِهِ كان قد وصل لأحمد عن طريق مصطفى باشا. حين اكتشف السلطان سليم بأمر خيانة هذا الأخير قام بقتله شرَّ قتلةٍ جزاءَ ما صنعت يداه، جاعلاً منه عبرةً لكل من يتجرأ على خداع السلطان.

تمكن لاحقًا من القبضِ على خمسةٍ من أولاد إخوته في البورصة، وقتلهم جميعًا. كما انطلق بعد ذلك نحو
صاروخان، مكان تواجد أخيه كوركوت، وقتله هو الآخر. أما أحمد فاشتبك جيشه مع الجنود العثمانية، وانتهت المعركة
بانهزامه وموته يوم 24 أبريل عام 1513 م، (الموافقل 17 صفر 919 هـ).

عاد سليم بعد ذلك إلى أدرنة حيث وجد مجموعة من السفراء بانتظاره، من مملكة المجر وجمهورية البندقية
والسلطنة المملوكية ودوقية موسكو، فأبرم معهم جميعا هدنة، بما أن اهتمامه تحول إلى الدولة الصفوية التي
أخذت في النمو والتوسع.

النزاع العثماني-الصفوي (معركة جالديران)

تأسَّست الإمبراطورية الصفوية على يد زعيم الطائفة الصفوية الصوفية الشيعية، الشَّاه إسماعيل، الذي كان من
أصول تركية وفارسية وكردية. بدأ سلسلة من الفتوحات من إمارة صغيرة في أذربيجان في شمال غرب إيران، وانتصر
إسماعيل بشكل مثيرٍ للإعجاب في معركته الأولى في عام 1501 م، عن عمر يناهز 14 عامًا. كما قام بالاستيلاء على
العديد من المناطق وضمها إلى نطاق حكمه، وبذلك بسط مملكته من الخليج العربي وصولًا إلى بحر قزوين.

كان التوسع المفاجئ للإمبراطورية الصفوية يشكل تهديدًا خطيرًا للإمبراطورية العثمانية إقليمياً، وزاد الشَّاه
إسماعيل الأول من زعزعة استقرارِ العثمانيين من خلال فرضه المذهب الشِّيعي على الشعب بالقوة والعنف، جاعلًا منه المذهب الرسمي لإيران. غير أنَّ العديد من الإيرانيين لاقوا هذا القرار المفاجئ بالرفض، نظرًا لكون غالبية سكان المدن الرئيسية من السُّنة.

فعَمِلَ على جَذبِ انتباهِ عشائر القزلباش التركية علوية المذهب، الذين كانوا يبغضون من الأوَّل التدابير الإداريَّة
والماليَّة العثمانيَّة، فجعلهم عمادَ جيشه، واستعان بهم في تعزيز قِواه ضد معارضيه ومساعدته على نشر المذهب
الشِّيعي. كما تذكر المصادر التاريخيّة أنّ الشَّاه إسماعيل كان شرسَ الطباعِ، متعطشًا للدماءِ، فبعد فرضه المذهب
الشيعي بالقوّة على شعبه، ارتكبَ مجازر بخصوص المواطنين صاحبي المذهب السُّني.

وفي نفس الفترة، بدأ السلطان سليم الأول في تحويل انتباهِ الإمبراطوريّة العثمانيّة من الغرب إلى الشرق، من خلال
الشروع في حملةٍ للتغلبِ على التَّهديد الصَّفوي. خصوصًا أنَّ العلاقة بين سليم الأول والشَّاه إسماعيل كانت متوترة،
حيث لم يرسل الشاه سفيرًا من إيران للدّولة العثمانيّة كباقي الدول، حين تولَّى سليم الأوَّل مقاليد الحكم. الأمر الذي
أطلق شرارة النفور بين الدّولتين وأنذرَ باِندلاع حرب بينهما لا محالة، لاسِيمَا أنَّ الشَّاه إسماعيل كان يدعم الأمير أحمد ضدَّ والده السلطان بايزيد الثاني وأخيه سليم الأول، ممَّا زاد الطين بلةً وزاد من رغبة السلطان سليم الأول في الانتقام منه.

استخدم سليم الأول المجازر المُقامة في حق السُّنيين كذريعةٍ لقرعِ طبولِ الحربِ ضدَّ الصفويين. فحاصر عددًا كبيرًا
من أصحابِ المذهب الشّيعي وقتلهم، وتقول المصادر بأن عددهم كان يقارب الأربعين ألفًا.

أُشعلت نيرانُ غضبِ الشَّاه إسماعيل الأوَّل، فشنَّ الهجوم على آسيا الصغرى. عندئذٍ أرسل السلطان سليم الأول في طلب كبارِ الأمراءِ والعلماءِ ورجال الحربِ ليناقشهم حول مدى خطورة الشَّاه إسماعيل الذي كان يعامل أصحاب السُّنة بعنصرية في دولته، ولذلك اقترح عليهم وُجوبَ الجهادِ المقدس ضدّ الصفويين. تم قبول طلبه، فأوكل ابنه سليمان تولِّي إدارة العاصمة، واتجه هو بجيشه نحو تبريز.

حاول الشّاه إسماعيل تجنب خوض معركة مع الجيش العثماني الّذي يفوق جيشه قوةً وتسليحًا، فأرسل لسليم الأول طلب هدنة، لكن الأخير لم يكتف برفض الطلب فقط، بل قتل الرسول فوق ذلك، وبعث إليه بمرسول يعلن فيه اندلاع الحرب رسميا. وفي نهاية المطاف، وافق الشّاه إسماعيل على مواجهة جيش سليم الأول، وتم تحديد موقع ساحة المعركة والذي كان سهل “جالديران”.

كانت كفّة المعركة لصالح جيش سليم منذ البداية، حيث أنه جمع جيشًا ضخمًا سارَ به إلى إيران، تمَّ تقديره بحوالي
200,000-50,000 جندي (كان الجيش العثماني يعتمد على خبرته العسكريّة المُكتسبة من الحروب ضدَّ الجيوش
الأوروبية، إلى جانب انضباطِه وامتلاكِه للمدافع الثقيلة ومُشاة الإنكشارية المزودون بالبنادق). في المقابل، كان الجيش الصفوي يضم حوالي 60,000-80,000 جندي، أقل تدريبًا وتجهيزًا، معتمدًا على الفرسان المسلحين دون امتلاكِ أي مدافع.

استمرت مسيرة الجيش العثماني مدة خمسة أشهر، وعند اقتراب وصولهم من جَالدِيران، علم السُّلطان سليم الأوّل
بأنَّ الشَّاه إِسماعيل يخطط إلى عدم مواجهة الجيش العثماني قريبا، بل تركهم يموتون بردًا وجوعًا، فسارع السُّلطان
سليم الأوّل واِتَّجه نحو جالديران، وصلها في شهر أغسطس وقام بالتَّمركز بأهمِّ مواقعها، الأمر الَّذي أعطى الجيش
العثماني أفضلية أثناء المعركة.

بدأ القتال بين الجيشين بيوم الأربعاء 23 أغسطس سنة 1514 م، )الموافق ل 2 رجب سنة 920 للهجرة(. وبعد معركة
حامية الوطيس، انهزمَ الجيش الصفوي وتكبَّد الفرسان الصفويُّون خسائر فادحة، كما أُصيب الشّاه إسماعيل الأوّل
قائدهم، إلَّا أنَّه لاَذَ بالفرارِ تاركًا وراءه كلَّ ما يملكه لدى سليم الأوّل وجنوده. كما تمَّ إلقاء القبض على زوجتِه “بهروزة
خانم”.

أراد السلطان سليم الأوّل متابعة القتال والإمساك بالشّاه إسماعيل والقضاء عليه، لكن بعض قادة الجيش أبدوا رفضًا للفكرة واستمروا بالتذمر، فرجعَ إلى العاصمة، وما إن وصل حتى قتل كلَّ من تذمر وأجبره على العودة.

منذ ذلك الحين، لم يكن للعثمانيين حصن ضدَّ الغزاة الشرقيّين فحسب، بل سيطروا أيضًا على طرق تجارة الحريرِ بين
تبريز وحلب، وتبريز وبورصة.

اِنصياع الإخوة بربروس للسلطان سليم الأول

يعد خير الدّين، واسحاق، وعرُّوج بربروس، أو بإختصار، الإخوة بربروس، من أعظم الأبطال العثمانيّين الّذين خلَّدوا
أسماءهم في التاريخ بأحرفٍ من ذهب. اشتهروا بكونهم أصحاب قدرات حربية وملاحيّة عالية، وبدفاعهم عن ساحل
المغرب الأوسط (الجزائر) من الإعتداءات الخارجيّة وصد الخطر المسيحي المحدق به.

بعد غزو إسبانيا لغرناطة عام 1492 م، وقضائِها على الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، هاجر العديد من
المسلمين إلى شمال أفريقيا. بعدها سعى كل من البرتغاليين والإسبان للتوغل في شمال أفريقيا. فبدأوا بشنِّ
هجومهم على المدن الساحلية. الأمر الذي استدعى تدخل الإخوة بربروس تحت إشراف الشاهزاده كوركوت، أخ سليم.

بعد الصراع على العرش الذي قام بين ولدي بايزيد (أحمد وسليم)، والتي انتهت بانتصار سليم، بدأ الأخير بالقيام بحملة تطهيرٍ ضدّ كل من دعم أخاه أحمد. ولعدم وثوقه بأخيه كوركوت هو الآخر، قام بقتله كذلك. الأمرُ الَّذي ترتَّب عنه فرار الإخوة بربروس إلى شمال أفريقيا لخوفهم من معاداة الدولة لهم، كونهم كانوا أتباع كوركوت.

وفي الوقت الذي كان فيه سليم الأوّل يحارب الصفويّين، كان نجم الإخوة بربروس يلمع في أحواض البحرِ الأبيضِ
المتوسط، أين حقَّق الإخوة العديد من الانتصارات، أبرزها: اِستولاؤهم على غليونين ضخمين يخصَّان البابا ليون العاشر، ومساهمة في إنقاذ عشرات الآلاف من الموريسكيِّين من الاضطهاد الإسباني. وكانت أحد أعظم الهزائم التي ألحقها خيرالدّين بأوُروبا هي معركة “بروزة”، ضدّ حلفٍ شكَّلته سبعة دول أوروبية. أضِف إلى ذلك تغلُّبه على الملك الإسباني كارلوس الخامس، وسيطرته على عشرين سفينة إسبانية وأسر قرابة 3,800 جندي وبحار، وتأسيسه لنظام السياسة البحريّة العثمانيّة ونظام أحواض السفن العثمانيّة.

هدف عروج كان الدفاع عن الديارِ الإسلامية، فرأى وُجوب تأسيس دولة قوية بشمال أفريقيا لصد التهديد الصليبي
الأوُروبي. بعدَ دراسات وتحليلات عديدة لأوضاعِ المنطقة، وقعَ اختيارُ عرّوج على المغرب الأوسط (الجزائر)، الذي كان تحت حكم الدولة الزيانية التي عانت من الغزوات الإسبانية المتكررة. فكانت خطته أن يقيم دولته هناك بعد القضاء على التهديد الإسباني. لكن تحقيق ذلك استوجب امتلاك الذخيرة اللازمة من السفن والأسلحة والجنود والتي لم تكن بحوزة الإخوة بربروس، الأمر الذي أَحوجهُ لطلب المساعدة من السلطان سليم الأوّل.

في بادئ الأمر، كان عرّوج مترددًا حول الاتصال بسليم، كونه كان في السابق من أتباع أخيه كوركوت، فبعد إعدام
كوركوت، خشي عرّوج أن يلقى نفس المصير. لكن هذه المخاوف سرعان ما تبددت بعدما حقق سليم انتصاره الساحق
على القوات الشيوعية الصفوية، مظهرا بذلك نواياه حول الحفاظ على الوحدة الإسلامية. فأرسل محيي الدين پيري
ريِّس إلى إسلامبول، محملاً بالهدايا والعطايا، إلى جانب رسالة تعلنُ ولاءَ الإخوة بربروس للسلطان سليم الأوّل والدولة العثمانية، وطلبهم للإعانة والإمدادات اللازمة لفتح المغرب الأوسط.

فرح السلطان سليم بالمرسول الذي وصله في شهر محرم 922 هـ (الموافقِ لِشهر مارس 1516 م)، خصوصًا بعد
سماعه للانتصارات الإسلامية العظيمة التي حققها الإخوة بربروس، فبعث بسفينتين حربيتين تحتويان على كل
الإمدادات العسكرية اللازمة، إحداهما لعرّوج والأخرى لخير الدّين، كما بعث لهما سيفين مقبضاهما من الألماس،
وخُلعتين سُلطانيَّتين ونيشانين.

نجح الإخوة بربروس في سحق التواجد الإسباني بالدولة الزيانية، و قاموا بتأسيس دولة الجزائر، وتولى خير الدّين
حكمها عام 1518 م، بعد استشهاد أخيه عرّوج.

النزاع العثماني-المملوكي (معركة مرج دابق)

معركة مرج دابق كانت اشتباكًا عسكريًا حاسمًا في تاريخ الشرق الأوسط، بين الجيش العثماني بقيادة سليم الأوّل
والجيش المملوكي بقيادة قانصوه الغوري، والتي انتهت بانتصار العثمانيين وغزوهم لجزء كبير من الشرق الأوسط،
وتدمير سلطنة المماليك.

كان تأسيس سلطنة المماليك بمصر عام 1250 م، على يد طائفةٍ من جنود العبيد الذين أخذوا السلطة من سلالة صلاح الدّين الأيُّوبي.

في بادئ الأمر، امتازت علاقة الدولة العثمانية ودولة المماليك بكونها علاقة ودية حيث شكلا فيما سبق حلفًا أثناء
الحرب ضد البرتغاليين. إلا أنَّ ملامح هذه العلاقة بدأت تهتز بعد النزاعات التي قامت بين السلطان سليم الأوّل والشّاه إسماعيل الأول، وسعي كل منهما لكسب دعم دولة المماليك، غير أن السلطان قانصوه الغوري إلتزمَ الحياد.

بعد النصر الساحق الذي حقّقه السلطان سليم الأوّل في معركة جالديران، حول اهتمامه نحو سلطنة المماليك، حيث
كانت تسيطر على كل من مصر وشبه الجزيرة العربية والشام، وهيمنت على العالم الإسلامي لما يزيد عن 250 سنة،
حيث كانت تضم وتحكم كل المدن المقدّسة في مكّة والمدينة المنورة والقدس.

غير أن موقف المماليك من الحرب العثمانية-الصفوية وضعهم في خانة الأعداء، حيث أعلن السلطان قانصوه
الغوري التزامه الحياد، لكنه مال سرًا إلى صف الدولة الصفوية، فقد قام العثمانيون بكشف مراسلات سرية بين سلطان المماليك والشّاه إسماعيل الأول قبيل معركة جالديران. كما كان استقبال السلطان قانصوه الغوري لمعارضي السلطان سليم الأول كأخيه أحمد، نذيرا بالنفور بين الدولتين.

جمع السلطان سليم الأوّل جيشا يضم حوالي 65,000 مقاتل، معروف بكفاءاته الحربية وأسلحته الفتاكة، على عكس
الجيش المملوكي. فشن حملة عسكرية كبيرة لتحطيم المماليك، كونها بدت لقمة سائغة له.

بدأت المعركة في منطقة مرج دابق بتاريخ 25 رجب 922 هـ (الموافق لـ 24 من أغسطس 1516 م)، بالقرب من حلب
في سوريا. استمر القتال بين الجيشين لمدة ثماني ساعات فقط، تم قتل السلطان قانصوه الغوري فيها عن عمر ناهز السادسة والستين سنة، والتغلب على الجيش المملوكي. الهزيمة التي ساهمت فيها خيانة القائد المملوكي، والي حلب، “خاير بك” بشكل كبير.

سمح هذا الانتصار للسلطان سليم الأول بفتح أبواب كل من الشام والقدس ومصر أمامه. كما تابع العثمانيون بعد
ذلك توغلهم في المنطقة، فزحفوا إلى القدس ثم غزة، أين تصادموا مع المماليك مجددا في حرب الريدانية في الثاني
والعشرين من كانون الثاني عام 1517 م.

صفاته وشخصيته

وصف سليم الأول بأنه طويل القامة، ذو أكتاف عريضة جدا وشارب طويل. كان ماهرًا في السياسة وقيل إنه مولع
بالقتال. وفقًا لمعظم الروايات، كان لسليم مزاج حاد فقد كانت لديه توقعات عالية جدًا من مرؤوسيه، فأعدم العديد من وزرائه لأسباب مختلفة. حتى أنه كانت هناك لعنة عثمانية شائعة تقول، “أتمنى أن تكون وزيراً لسليم” ، في إشارة إلى الكم الهائل من الوزراء الذين أعدمهم.

كان سليم أحد أكثر حكام الإمبراطورية نجاحًا واحترامًا، وكان نشيطًا ويعمل بجد. كان بلاطه ديناميكيًا، حيث كان سخيا
في تقديم المكافآت. وبالرغم من أنه كان قائداً، إلا أنه كان في غاية التواضع.

تقول إحدى الأساطير الشعبية أن سليم الأول قد ملأ الخزينة الملكية على حافة الهاوية وأغلقها بختمه الخاص.
وأصدر مرسومًا بأن “من يملأ الخزينة أكثر من ذلك، يجوز له أن يستخدم ختمه في قفلها”. ظلت الخزينة مغلقة بختم
سليم حتى انهيار الإمبراطورية بعد 400 عام.

كان سليم أيضًا شاعرًا متميزًا كتب الشعر التركي والفارسي تحت اسم محلا سليمي. لازالت كتاباته محفوظة لحد
يومنا هذا.

وفاته

بعد عودته من حملته المصرية، بدأ سليم الأول في الاستعداد لإطلاق حملة يعتقد أنها كانت نحو المجر سنة
1520 م، الموافقة لسنة 926 للهجرة. تم إيقاف هذه الحملة عندما فتك المرض بجسده وأطرحه الفراش، توفي في 22
سبتمبر 1520 م، بكورلو، تيكيرداغ. كانت السنة التاسعة من حكمه، وكان يبلغ من العمر خمسة وخمسين عامًا تقريبًا.
يقال أن سليم استسلم للرشفة، وهي عدوى جلدية أصيب بها خلال حملاته الطويلة على ظهور الخيل. كما يدعي بعض المؤرخين أنه تعرض للتسمم من قبل طبيبه الخاص الذي كان يعتني بإصابته، ويزعم مؤرخون آخرون أن المرض الذي عانى منه سليم كان سرطان الجلد. لتنطوي الصفحة الأخيرة للسلطان سليم الأول، غازي الشرق بنهاية دراماتيكية ذات آراء مختلفة.

يذكر محمد فريد بك في كتابه “تاريخ الدولة العليّة العثمانية”، أن الطبيب الخاص بالسلطان سليم الأول أخفى خبر
وفاته واجتمع مع كبار البلاط العثماني الذين قرروا في الأخير أن يخفوا خبر موته لحين قدوم ابنه سليمان من مغنيسيا
وذلك حتى لا يعلم الإنكشارية بالأمر فيقرروا أن يثوروا كما جرت عادتهم.

بقيخبر موت السلطان طيالكتمان طيلة تسعة أيام، إلىأن وصل الشاهزاده سليمان إلىإسلامبول فييوم 16
شوال )الموافق لـ 29 أيلول(، وبعد ظهر ذلك اليوم وصل الصدر الأعظم پيري محمد باشا وأخبر عن وصول جُثمان
السُلطان سليم في اليوم الموالي. وفي 17 شوّال )الموافقل 30 أيلول(، وصل موكب جنازة السُلطان، فخرج سليمان
ليقابلهم عند أسوار المدينة، واكتنف تابوت والده حتَّى مسجد الفاتح أين أقيمت صلاة الجنازة. تم دفنه بمسجد
السليمية، الذي تم تشييده بناء على أوامر ابنه السلطان سليمان. و من المعروف أن السلطان سليم الأول يرقد وحيدا في قبره هذا، تماما مثل جده السلطان محمد الفاتح.

المصادر

– تاريخ الدولة العثمانية العلية لفريد بك.
– كتاب سلاطين الدولة العثمانية عوامل النهوض واسباب السقوط للدكتور ابراهيم حسنين.
– تاريخ العثمانيين من قيام الدولة العثمانية الى الانقلاب على الخلافة لمحمد سهيل طقوش 2008.
– موسوعة تاريخ الامبراطور ية العثمانية السياسي والعسكري والحضاري ليلماز أوزتونا.
– بدائع الزهور في وقائع الدهور لمحمد ابن إياس الحنفي القاهري.
– كتاب جامع الدول قسم سلاطين آل عثمان لمنجم باشي أحمد بن لطف الله.