عروج بربروس: قائد الأساطيل وقاهر الأعداء

عروج بربروس: قائد الأساطيل وقاهر الأعداء

هو عُرُوج (بالتركية: Oruç) بن أبي يوسف يعقوب التركي، ويدعى “بابا عروج” و”عروج ريّس” (و”الريّس” أو “الرئيس” هو التسمية التي كانت تُطلق على قبطان البحار)، كما يعرف بلقب “عروج بربروس”، وهو لقبٌ أطلقه عليه الإفرنج نسبةً إلى لحيته الحمراء (عبارة “لحية حمراء” بالفرنسية هي: Barbe rousse).

اشتهر هو وأخوه خير الدين بالجهاد البحري، ويعتبران من أشهر قادة الأساطيل البحرية في التاريخ الإسلامي، وقال عنهما المؤرخ الجزائري أحمد توفيق المدني:

“إن حياتهما قد أضحت أسطورة من الأساطير العالمية، ألِّفت فيها الكتب، وكثرت فيها الأقوال، واختلفت حولها الآراء، فلم تتفق إلا حول أمر واحد، ألا وهو أنهما من أشدّاء الصناديد، ومن عظماء الأبطال، ومن أولي العزم الذين سَمت بهم عصاميتهم فبوّأتهم أعلى المقاعد وحققت لهم، وبهم أغلى الآمال”.

نشأته

وُلد عُرُوج سنة 879هـ/1474م  في جزيرة ميديلّي من بحر الأرخبيل. والده يعقوب آغا كان من المجاهدين الفاتحين وأحد فرسان السباهية، وأمه سيدة من أهل جزيرة ميديلي [1]، وله ثلاثة إخوة: إسحاق، خسرف (ويسمّى أيضا “الخضر” ويلقّب بـ”خير الدين بربروس”) ومحمد إلياس.

 وقد عُرِف يعقوب آغا بحرصه على تربية أبنائه على أسس الشريعة الإسلامية الصحيحة، والتمسك بالعقيدة والدفاع عن الدين.

ركوبه البحر وأسرُه

بينما انصرف الابن الأكبر إسحاق إلى طلب العلم، اختار بقية الأبناء ركوب البحر للتجارة، وكان عروج أوّل من اندفع إلى هذه المغامرة.

في البداية، كانت رحلات عروج وأخيه خير الدين تقتصر على التنقل بين سلانيك وأغريبوز لجلب البضاعة ثم بيعها في ميديلي. لكن هذه الرحلات القريبة لم تكن تُرضي طموح عروج، فخرج مع أخيه إلياس قاصدا طرابلس الشام، وفي طريقهما صادفا فرسان رودس واشتبك الطرفان في معركة عنيفة انتهت باستشهاد إلياس ووقوع عروج أسيرا في قبضة الأعداء.

لما سمع خير الدين بما حدث، قصد بودروم مع صديقه غريغو وأعطاه ثمانية عشر ألف أقجة [2] مقابل أن يذهب إلى رودس ويساعده على إنقاذ أخيه من الأسر، لكن غريغو وشى للسجانين بأن لعروج أخًا مستعدا لدفع الكثير من المال مقابل إطلاق سراحه، فزادوا في تعذيبه ووضعوه في زنزانة تحت الأرض، ثم قرروا تشغيله كأسير جداف في إحدى السفن، ففرح عروج بذلك وقال: “إن العمل في الجدف على سطح البحر نعمة بالنسبة لمن رأى الأذى تحت الأرض. يا رب لك الحمد، فقد رأيتُ وجه العالم.”

تحرره من الأسر

في تلك الفترة، كان الأمير كوركوت –ابن السلطان بيازيد الثاني- واليا على أنطاليا، وكان من عادته أن يشتري كل سنة مئة أسير تركي من جزيرة رودس ليعتقهم في سبيل الله. في العام الذي احتُجز فيه عروج، اختار فرسانُ رودس مئةَ أسير أرسلوهم إلى أنطاليا، ورغم أن عروج لم يكن من بين الأسرى المحرّرين، إلا أنه كان يعمل جدّافًا مقيّدا بالسفينة التي تكفّلت بنقل الأسرى.

بعد وصول السفينة إلى السواحل الأنطالية وتسليم الأسرى إلى كوركوت، هبّت رياح معاكسة جعلت الرودسيين يُقرّرون تأجيل الإبحار إلى الصباح، ونزلوا في قارب لصيد السمك. وهنالك، اشتدّت الرياح وغاص المكان في ظلام حالك، فانتهز عروج الفرصة وحلّ وثاقه وألقى بنفسه في البحر، وراح يسبح باتجاه الساحل متوكّلا على الله تعالى.

وصل عروج إلى اليابسة بسلام، وأقام في قرية تركية لمدة عشرة أيام، ثم انطلق باتجاه ميديلي، وعندما وصل إلى أنطاليا التقى برجل يدعى علي ريّس، كان يتاجر بين الإسكندرية وأنطاليا؛ فأُعجب الرجل بعروج ودعاه ليكون قبطانًا ثانيًا لسفينته.

دخوله في خدمة سلطان مصر

اشتهر عروج بصفته قبطانًا ذا شأن، فدعاه سلطان مصر قانصوه الغوري للقدوم إليه والدخول في خدمته. فقد كان السلطان المملوكي عازمًا على بناء أسطول بحري قوي للتصدي لبطش البرتغاليين الذين اكتشفوا في تلك الفترة الطريق إلى الهند عبر الالتفاف حول إفريقيا، وأكثروا من شنّ الغارات على سفن المسلمين ومهاجمة الحجاج والاعتداء على السواحل الإسلامية المطلة على البحر الأحمر والمحيط الهندي.

وافق عروج على العرض، فأمر السلطانُ بصناعة أربعين قطعة بحرية وضمّها للأسطول، وكانت المرحلة الأولى من العملية هي إرسال الأخشاب (المادة الأولية لصناعة السفن) إلى ميناء باياس. وعندما وصلت الأخشاب إلى الميناء، خرج عروج في ست عشرة سفينة لأخذها، وهناك أغار عليه الرودسيون الذين بلغهم بأن أسيرهم السابق قد صار قادًا لأسطول سلطان مصر.

لم يكن هناك تكافؤ بين حجم أسطول عروج وأسطول أعدائه، فقرر عروج سحب كل سفنه إلى البر، وانسحب مع رجاله إلى داخل الأراضي العثمانية، ثم اتجه إلى أنطاليا حيث اقتنى سفينة ذات ثمانية عشر مقعدًا وأغار بها على سواحل رودس؛ كان عروج شديدًا على الكفار في غزوه وغاراته، حتى قال عنه حاكم رودس:

” لقد ظهر قرصان يدعى عروج رئيس يملك سفينة ذات ثمانية عشر مقعدًا لا يكاد ينجو منه أحد. إنه يقوم بالاستيلاء على أموالنا وإحراق بلادنا، وكثيرا ما يأسر أطفالنا ويأخذهم إلى طرابلس الشام حيث يبيعهم في أسواقها، حتى صرنا لا نقدر على ركوب البحر خوفا من شره. لقد كنت حذّرتكم وقلت لكم لا تُخرجوا هذا التركي من الزنزانة من تحت الأرض، لكنكم لم تسمعوا قولي فأخرجتموه وجعلتموه جدّافا في السفينة. هيا اذهبوا وتخلصوا منه بسرعة !”

حصوله على مساعدة الأمير كوركوت

اشتاط الرودسيون غضبًا بسبب الويل الذي ألحقه بهم عروج، فخرجوا في خمس أو ست قطع بحرية للبحث عنه بهدف الانتقام، ولكنهم وجدوا سفينته فارغة، فأحرقوها دون أن يتمكنوا من النيل منه أو من رجاله.

شاع خبر فقدان عروج لسفينته حتى وصل إلى خازنٍ يقال له بيالة باي كان يعمل عند الأمير كوركوت، وكانت تربطه بعروج صداقة قوية، فارتأى بيالة باي أن يذكر أمر صديقه للأمير كوركوت عسى أن يمد له يد العون، فقال له: “إن عروج رئيس عبد من عبيدكم المجاهدين، وهو يقوم بمجاهدة الكفار ليلا ونهارا. لقد انتصر عليهم في معارك كثيرة، غير أنه فقد سفينته وهو يرغب في أن تتفضّلوا عليه بسفينة يغزو عليها.”

فطلب الأمير كوركوت حضور عروج إليه، وأرسل إلى قاضي إزمير أمرًا بصنع السفينة، كما كتب بيالة باي إلى رئيس الجمارك في إزمير يطلب منه صنع سفينة أخرى لعروج على حسابه، وبالفعل، حين وصل عروج إلى إزمير وجد بانتظاره سفينتين يتصرّف فيهما كيف يشاء، فأخذهما وعاد إلى شن الغارات على سفن الكفار.

ثم رجع عروج إلى ميديلي بعد غياب طويل ومعه الكثير من الغنائم، ولم يكد يرتاح هناك حتى بلغه أن الأمير كوركوت لاذ بالفرار لإنقاذ نفسه من بطش أخيه سليم الأول الذي اعتلى عرش الإمبراطورية العثمانية، فنصحه أخوه إلياس بقضاء الشتاء في الإسكندرية لأن امتلاكه لسفينة من إحسان الأمير كوركوت يمكن أن يوقعه في المتاعب مع السلطات.

عمل عروج بنصيحة أخيه، فانطلق إلى الإسكندرية، واستولى في طريقه إليها على سبع سفن للعدو، وعندما وصل الإسكندرية أهدى إلى سلطان مصر عددًا من السفن ونصيبًا من الغنائم، وأربع جواري وأربعة غلمان، وفعل ذلك ليكسب رضا السلطان ويتدارك الموقف بعد فقدانه لسفن الأسطول المصري التي هاجمها الرودسيون.

فرح السلطان بقدوم عروج إليه وسُرّ بهداياه، وكتب إلى والي الإسكندرية يأمره بإكرامه وحسن ضيافته، فأمضى عروج الشتاء في مصر. وحين حل الربيع، خرج للغزو واتجه هذه المرة إلى سواحل جزيرة جربة التونسية لاقتناص سفن الأعداء هناك.

قطع ذراعه

كان خير الدين هو الآخر قد اشترى سفينة خاصة وجاب البحر طولا وعرضًا، والتقى بأخيه عروج في جربة، فاتجه الأخوان مع يحيى ريّس إلى سلطان تونس الحفصي أبو عبد الله محمد المتوكِّل وقدّموا له الهدايا، وقالوا له: “نريد أن تتفضل علينا بمكان نحمي فيه سفننا بينما نقوم بالجهاد في سبيل الله وسوف نبيع غنائمنا في أسواق تونس فيستفيد المسلمون من ذلك وتنتعش التجارة، كما ندفع لخزينة الدولة ثُمُن ما نحوزه من الغنائم.” فقبل السلطان عرضهم وأجابهم إلى ما سألوه، ورحّب بهم في تونس، وأذن لهم بالرسو في ميناء حلق الوادي، فقضوا الشتاء هناك، وعادوا إلى الغزو في الربيع.

في إحدى الغزوات، وصل الأخوان بربروس ورجالهما إلى ميناء نابولي، فصادفهم مركب كبير متوجه إلى إسبانيا، فقاموا بقصفه ونشبت بين الطرفين معركة كبيرة راح ضحيتها عدد كبير من القتلى والشهداء، كما سقط عدد مهم من الجرحى من بينهم عروج بربروس، ومع ذلك فقد تمكن المسلمون من الاستيلاء على السفينة وأسر ما يقارب مئتي شخص، ثم عادوا إلى تونس لمعالجة جِراح المصابين، وقدّموا للسلطان جزءً من الغنائم التي نالوها.

كتب خير الدين بربروس في مذكراته:

 بعد هذه الغزوة، شاع أمرنا في كل ممالك الكفر، فاتفقوا على القضاء علينا قائلين: “لقد ظهر تركيان اسمهما عروج وخير الدين خضر. يجب أن نسحق هاتين الحيّتين قبل أن تتحولا إلى تنّين. علينا أن نمحو اسميهما من على وجه الأرض. إننا إذا أتحنا لهما الفرصة سوف يسببان لنا متاعب كبيرة”.

عزم الإسبان إذن على الانتقام فأعدّوا عشر قطع بحرية لمواجهة سفن عروج وخير الدين، وبحثوا عنهم في سواحل جنوة، ولكنهم لم يعثروا عليهم، فاتجهوا إلى بجاية، وهناك وقعت مجدّدًا معركة كبيرة بين الطرفين، تمكن خلالها الأخوان بربروس من الاستيلاء على عدد من سفن العدو، بينما انسحبت بقية سفن الكفار إلى بجاية للاحتماء بقلعتها.

أصرّ عروج على مهاجمة القلعة التي اتخذها الإسبان ذِرعًا واقيًا لهم، فردّ عليهم الجنود الإسبان بوابل من القنابل وقذائف المدفعية، مما أدّى إلى استشهاد حوالي ستين رجلا وسقوط عدد كبير من الجرحى، وإصابة عروج بإحدى القذائف في ذراعه الأيسر.

لما رأى خير الدين ما حدث لأخيه، شنّ هجومًا شرسًا على الإسبان، ثم جمع جنوده وركبوا البحر باتجاه تونس.

حين رأى الجرذاحون حالة ذراع عروج بربروس، أجمعوا على ضرورة قطعها، فبكى خير الدين بحُرقة كبيرة، لكن عروج قال له مُحتسبًا: “لماذا تبكي؟ هذا قضاء الله وقدره. إني أحمد الله على أني فقدتُ ذراعي في الغزو. تكفيني هذه النعمة”.

نجدته للأندلسيين

سقطت غرناطة آخر ممالك الأندلس سنة 1492 بين يدي الكاثوليكيَّين فرناندو الثاني ملك أراغون وزوجته إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة، فتحوّلت حياة المسلمين إلى صراع مرير خصوصًا بعد استهدافهم من طرف محاكم التفتيش بغية ردّهم عن دينهم؛ فعُذِّبوا أشد العذاب وطُرِدوا من ديارهم وحُرِموا من ممتلكاتهم، وصاروا ضِعافًا مغلوبين على أمرهم بعد أن كانوا في عزٍّ وقوة.

كتب خير الدين بربروس في مذكراته:

استعاد أخي عافيته في ذلك الشتاء. وعندما حل الربيع وانتعشت النفوس خرجنا في ثمانية مراكب للغزو، فوصلنا إلى سواحل الأندلس حيث كانت المدينة الإسلامية غرناطة قد سقطت قريبا بيد الإسبان.

كان الإسبان يقومون بمظالم كبيرة في حق المسلمين الذين كان الكثير منهم يعبدون الله سرّا في مساجد سرية قاموا ببنائها تحت الأرض. لقد دمّر الإسبان وأحرقوا جميع المساجد وصاروا كلما عثروا على مسلم صائم أو قائم إلا وعرّضوه وأولاده للعذاب والإحراق. خلال ذلك قمنا بحمل عدد كبير من المسلمين في السفن وإنقاذهم من أيدي الكفار، ونقلهم إلى الجزائر وتونس.

حصوله على حماية ومباركة السلطان العثماني سليم الأول

قضى الأخوان عروج وخير الدين بربروس فصل الشتاء الموالي في جزيرة ميديلي، فأقاموا الولائم وأكرموا الأهالي وأطعموا الفقراء وزوّجوا النساء، وأعادوا تجهيز سفنهم الخاصة وطلبوا صنع ثلاث سفن جديدة، وجاءهم الشبان من كل مناطق الأناضول يرجون العمل معهم كبحّارة، فقبلوا منهم من رأوا فيه علامات الشجاعة والجسارة.

ولما حلّ الربيع، خرج عروج بربروس وأخوه إلى البحر مجددا، وتمكنوا من الاستيلاء على خمس عشرة قطعة بحرية كانت خمس سفن منها محمّلة بالقمح، واثنتان منها ممتلئة بزيت الزيتون، وواحدة مشحونة بالعاج، والباقي فيها بضائع مختلفة والكثير من الأموال.

اتجهوا بعد ذلك إلى تونس، فوزعوا جزءً من الغنائم على الفقراء والمساكين، وباعوا جزءً آخر في الأسواق، وأرسلوا لسلطان تونس نصيبه ممّا غنموا فكافأهم بالكثير من الهدايا.

أمضى البحارة فصل الشتاء الموالي في تونس، وفي الربيع خرجوا مجددا للغارة في البحر، فأغاروا على إحدى القلاع بجزيرة صقلية، واستولى دلي محمد رئيس على إحدى السفن التجارية التي كانت راسية في الميناء، كانت السفينة محملة بالسكر، وفي اليوم الموالي استولوا على أربعة مراكب أخرى نصفها محمل بالجوخ والنصف الآخر بالبارود، وبأعمدة شراعية مصنوعة من أجود أنواع الخشب قرّروا إرسالها إلى السلطان سليم الأول مع محي الدين بيري ريس.

اتّجه بيري ريس إلى إسطنبول في ست قطع بحرية، ولما وصل إلى الساحل حيّا السلطان بإطلاق القذائف المدفعية. فرح السلطان بقدوم البحّارة واستقبلهم بحفاوة، واطّلع على الهدايا التي أحضروها واحدةً واحدة، وسُر بها جميعا، وأمر بإصلاح السفن وتزويدها بالعدّة اللازمة، وطلب بناءَ سفينتين حربيتين وشحنها بكميات كبيرة من القذائف، وتقديمها كهدايا إلى عروج بربروس وأخيه خير الدين، كما أرسل لكل واحد منهما سيفًا حُلِّيت قبضته بالماس، وخلعة سلطانية ونيشانًا.

لما همّ بيري رئيس بالمغادرة، ودّعه السلطان قائلا: “أستودعكم الله وأسأله أن يديم عليكم نصره المؤزّر، ومهما تكن لكم من حاجة فإنه يمكنكم عرضها علينا لقضائها”، وسلّمه رسالة موجهة لسلطان تونس يأمره فيها بعدم التقصير في تقديم العون للقبطانين، وهكذا دخل عروج بربروس وأخوه في حماية السلطان العثماني سليم الأول.

فتوحاته

بجاية وجيجل

بينما كان الأخوان بربروس في طريقهما إلى مضيق سبتة، وصلهم وفد من مدينة بجاية يحمل هذه الرسالة:

“إن كان ثمة مغيث فليكن منكم أيها المجاهدون الأبطال. لقد صرنا لا نستطيع أداء الصلاة أو تعليم أطفالنا القرآن الكريم لما نلقاه من ظلم الإسبان. فها نحن نضع أمرنا بين أيديكم. جعلكم الله سببا لخلاصنا بتسليمه إيانا إليكم، فتفضلوا بتشريف بلدنا وعجِّلوا بتخليصنا من هؤلاء الكفار.”

تحرّك عروج بربروس نحو بجاية برفقة أخيه وما يزيد عن ألفي بحّار لتلبية نداء الأهالي، ولما وصلوا خاضوا معركة حامية ضد الإسبان الغُزاة، وانضم سكان المنطقة من المسلمين ليحاربوا إلى جانب عروج ورجاله فانتصروا، وانسحب الإسبان للاحتماء بأسوار القلعة لمدة كادت تبلغ الشهر.

بعد ذلك وصلت إلى عروج أخبار بأن قوات إسبانية كبيرة تحركت من جزيرة مينورقة إلى بجاية، فانسحب عروج ورجاله إلى جيجل التي كانت محتلة في تلك الفترة من طرف جمهورية جنوة. قرّر عروج فتح هذه المدينة لأن العودة إلى بجاية كانت ضرورية لضرب الإسبان الضربة القاضية، ولم يكن من الممكن التوجه إلى تونس لأنها بعيدة عن أرض المعركة، فقرروا جعل جيجل نقطة لتمركزهم وعزموا على طرد الكفار منها.

 أجرى عروج عدة اتصالات مع المجاهدين المسلمين من أهل المنطقة الذين أُخرجوا من ديارهم بالقوة، واتفقوا معهم على التعاون والتلاحم في وجه العدو المشترك، وهو ما كان، فاهتز كيان الحامية الجنوية وتمكن المسلمون من استرجاع أراضيهم، واستطاع عروج أن يجد مركزا آمنا يستمد منه العون عند الحاجة.

وبعد مدة لاحت في أفق سواحل جيجل السفنُ الإسبانية القادمة لدعم جنود بجاية، فهجم عليها عروج ورجاله، ولم يجدوا صعوبة في الاستيلاء عليها بما فيها من أسلحة ومعدات عسكرية. بعد ذلك، أمر عروج رجاله برفع الرايات الصليبية على السفن الإسبانية والتوجه نحو بجاية، فاعتقد الجنود الإسبان المختبئون في القلعة بأن الإمدادات وصلت لإنقاذهم، ففتحوا أبواب القلعة وهبّوا لاستقبال السفن، لكنهم لم يجدوا سوى خير الدين بربروس وجنوده أمامهم.

انتصر المسلمون على الإسبان في هذه المعركة وطردوهم من القلعة، واجتمع أعيان المدينة لمبايعة عروج وخير الدين ملِكين عليهم.

الجزائر

بعد هذه الواقعة، قدمت وفود كثيرة من مختلف المدن الجزائرية تدعو الأخوين بربروس لتحريرهم من قبضة الاحتلال الإسباني، وكان أهمها الوفد القادم من مدينة الجزائر الذي جاء يشكو من تواجد الإسبان في حصن الصخرة (قلعة البنيون) بالقرب من سواحلهم، وتحكمهم في حركة السفن القادمة إلى المرسى ومنعهم للإمدادات وفرضهم للضرائب.

استجاب عروج لدعوة أعيان الجزائر، فاتجه إليها برًّا وترك أخاه خير الدين خليفة له على مدينة جيجل.

عندما وصل عروج إلى الجزائر، استقبله سكّانها استقبال الفاتحين، فانطلق منها إلى شرشال وفتحها، ثم عاد إلى الجزائر ورفع راياته فوق أبراج المدينة، وبالتوازي مع ذلك، أرسلت إسبانيا قوّات عسكرية هامّة لدعم الجنود المتواجدين في حصن الصخرة.

انتظر عروج حتى حلّ الليل وانتشر الظلام، وخرج خفية من القلعة مع ثلاثة آلاف مجاهد، والتف حول الجبال المحيطة بالمنطقة ليتمكن من الهجوم على الإسبان من الخلف، وقام بمباغتتهم، فارتبك الجنود الإسبان وتمكّن عروج من القضاء عليهم وأسر ما يقارب ثلاثة آلاف من جنودهم، وهكذا انتصرت مدينة الجزائر على الغزاة.

تنس

كان عروج يرغب في ضم مدينة تنس التي كانت تحت حماية الإسبان، فوكّل أخاه خير الدين بالتوجه إليها. لما رأى الإسبان السفن تقترب منهم، أصابهم الهلع فانسحبوا إلى القلعة ليحتموا بأسوارها، مما سهل على خير الدين ورجاله الاستيلاء على ما تركوا خلفهم من سفن ومدافع وبنادق.

وعندما نزل البحارة إلى البر وجدوا أبواب القلعة مفتوحة، وفي استقبالهم مئات المسلمين الذين أعلنوا ترحيبهم بهم وأخبروهم بأن أميرهم يحيى الزياني المتواطئ مع الإسبان قد غادر معهم في الليل. أرسل خير الدين رجاله لتتبّع الهاربين، فلحقوا بهم واقتتل الطرفان في اشتباك عنيف انتهى بانتصار المسلمين.

خلّف خير الدين أحد ضبّاطه على تنس وعاد إلى مدينة الجزائر ليبلّغ أخويه عروج وإسحاق بالنصر الذي حققه، لكن سرعان ما جاءتهم أخبار جديدة تنبئهم بأن أمير تنس عاد إلى القلعة واستولى عليها بدعم من الإسبان، وأن الأهالي رضوا به.

اشتاط عروج غضبا بسبب ما حصل، فجمع علماء مدينة الجزائر وسألهم عن حكم الشرع فيمن تواطأ مع الكفار وبايع الإسبان الذين يقتلون المسلمين في بلادهم، فأجابوه: “قتله واجب ودمه هدر وماله مباح”. أخذ عروج هذه الفتوى واتجه إلى تنس، وحين وصل وجد الأهالي قد قاموا بتقييد أميرهم حين بلغهم قدوم عروج، فسلّموه الأمير الزياني وطلبوا منه العفو، فأمر عروج بإعدام الأمير الخائن والأعيان العرب الذين قبلوا به عندما عاد إليهم مع الإسبان، وعفا عن البقية.

تلمسان

كانت تلمسان ضمن المدن التي أرسلت وفودها إلى الإخوة بربروس ليحرّروهم من الإسبان، ورغم أن عروج كان يريد تلبية دعوة الأهالي إلا أن المدينة كانت بعيدة المسافة عن البحر، فلم يكن بإمكان السفن الوصول إليها، كما أنها كانت تملك جيشًا كبيرًا مكوّنا من تحالف العرب مع الإسبان.

بينما كان عروج مترددا بشأن الذهاب إلى تلمسان، أعلن أهالي هذه المدينة الثورة ضد سلطانهم أبو حمو الثالث الموالي للإسبان، وأرسلوا وفدا إلى عروج يبايعونه سلطانا عليهم، مما أحدث رعبا كبيرا في إسبانيا لأن تواجد عروج في تلمسان يشكل خطرًا عظيمًا على الإسبان المتواجدين في وهران.

اتجه عروج في بداية الشتاء إلى تلمسان ليقضي بقية الفصل هناك، وترك أخاه خير الدين خليفةً له على الجزائر. وفي نفس الوقت، كتب سلطان تلمسان المطرود إلى القائد الإسباني المتمركز في وهران يطلب منه أن يمدّه بالعدة والعتاد والجند، فأرسل إليه عشرين ألف دينار وأعلمه بقدوم جيش كبير مكوّن من عشرة آلاف جندي، كما التحق بالسلطان ما يقارب عشرين ألفا من جنود البربر.

لم يكن عروج بربروس يملك في صفّه سوى ألف جندي، مما جعل مواجهة قوات العدو التي تفوقهم بثلاثين ضعفا أمرا مستحيلا، فأمر بإخلاء المدينة وتحصّن داخل أسوار القلعة، ولما وصل الكفّار عاثوا فسادا في المدينة وفرضوا الحصار على القلعة.

لما علم خير الدين بما حدث في تلمسان، جمع ألف جندي من الأتراك وألفي فارس من العرب  وأرسلهم تحت إمرة أخيه إسحاق لنجدة عروج ومن معه.

عندما سمع عروج بقدوم الدعم، خرج من القلعة ليشرف على توحيد القوّات، ثم عاد إلى تلمسان في ألفي جندي، واشتبك مع العدو في معركة عنيفة استمرت لأكثر من ثلاث ساعات، انتصر فيها عروج وجنوده.

لما علم كارلوس الخامس ملك إسبانيا بما حدث، أرسل إلى واليه في وهران رسالة فيها: “إذا كنت تريد أن تحتفظ برأسك فعليك أن تقضي على عروج رئيس وجميع من معه من الأتراك. يجب أن ترسل إلي عروج حيا إلى إسبانيا. وأنا أعرف القتلة التي أذيقه إياها.”

سار حاكم وهران إلى تلمسان في ثلاثين ألف جندي، وعندما وصل خاض ضد عروج معارك دامت ثلاثة أشهر، ورغم النقص في القوة والعدد إلا أن عروج ورجاله لم يستسلموا.

تعب حاكم وهران من فرض الحصار دون نتيجة، فبعث رسولا إلى المسلمين يخبرهم بأن لهم أن يغادروا في أمان وأن يأخذوا أسلحتهم معهم إذا وافقوا على ترك القلعة. عرض عروج على رجاله هذا الأمر وشاورهم، فقبلوا قائلين: “بكل تأكيد، الحياة أفضل من الموت. لنخرج إلى الجزائر ثم نعود بعد ذلك لاسترجاع القلعة من جديد.”

استشهاده

سلّم عروج القلعة وخرج منها هو ومن معه حاملين أسلحتهم وفقًا لبنود المعاهدة، لكن الإسبان لم يلبثوا أن لحقوا بهم في فرقة مكونة من خمسة عشر ألف جندي، وأمروهم بتسليم أسلحتهم، فرفض عروج ذلك والتحم الطرفان في معركة غير متكافئة، حاول إثرها الأتراك عبور النهر للإفلات من قبضة العدو الخائن، إلا أن الإسبان أدركوهم، فشرعوا يستغيثون بعروج الذي كانوا ينادونه “بابا عروج” باعتباره كبيرهم، ولهذا، عوض النجاة بنفسه واللجوء إلى الجزائر لإعادة تجميع الصفوف، عاد عروج إلى ميدان المعركة مُشهرًا سيفه في وجه الأعداء، فقتل منهم عشرات الجنود قبل أن يسقط شهيدًا في ساحة الوغى سنة 924هـ/1518م، وقُطِع رأسه وأُرسِل إلى ملك إسبانيا.

كتب خير الدين في مذكراته:

عندما وصل خبر استشهاد أخي إلى الجزائر، قررت أن أعيش لغاية واحدة هي المضي في نفس الطريق الذي سار فيه أخي، تلك الغاية التي كانت تتمثل في التضييق على الكفار في إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.


[1] يقول خير الدين بربروس في مذكراته أن والدته من أهل ميديلي، بينما يتفق بعض المؤرّخين على أنها من أصول أندلسية.

[2] عملة فضية عثمانية.

المصادر:

مذكرات خير الدين بربروس (ترجمة: محمد دراج).

كتاب حرب الثلاثمئة سنة بين الجزائر وإسبانيا 1492- 1792، أحمد توفيق المدني.