تُعد سيرة الملك الظاهر بيبرس من أكثر سير الملوك والفاتحين المسلمين غنىً باﻷحداث الكبيرة والمعارك والفتوحات الواسعة، كما يمتلئ تاريخ البلاد من مصر إلى الشام مروراً بالسودان والحجاز بقصص الملك الظاهر بيبرس، وهو يعتبر المؤسس الفعلي لدولة المماليك بإنجازاته الكثيرة وعظيمة الأثر في كافة النواحي السياسية والعمرانية والثقافية والعلمية، فضلاً كذلك عن معاركه الحربية الواسعة والكبيرة في البلاد التي احتلها كل من الصليبيين من جهة، والتتار من جهة أخرى، وذلك أيضاً بتوفيق الله أولاً ثم بفضل الالتفاف الشعبي حوله، والذي تصاحب مع إرادة جماهيرية فولاذية اقترنت بتطبيق حنكة سياسية ودهاء جعله ينجح في محاربة كلا العدويين معاً من غير أن يدفعهما للتحالف ضده.
وبهذه النجاحات الكبيرة في ذلك الوقت الحرج والحساس للغاية، استحق بيبرس أن يكون مدرسةً في التاريخ وأن تكون قصته على كل لسان، وعلى الرغم من كل ذلك فهو أيضاً محل خلاف بين المؤرخين، وشخصيته مثيرة للجدل بسبب ما قيل حول قتله الملك المظفر قطز الذي أسهم بإنقاذ العالم اﻹسلامي بأسره من خطر المغول عبر إنجاز الاستعداد العسكري والمادي، ثم تحقيق الانتصار الفعلي عليهم في معركة عين جالوت الفاصلة. فكيف يمكن لنا قراءة أو دراسة سيرة الملك الظاهر بيبرس؟
دولة المماليك
اشتهرت دولة سلاطين المماليك في التاريخ اﻹسلامي وحتى على مستوى التاريخ العالمي بشكل كبير لأسباب كثيرة من أهمها ما يلي:
1. المفارقة التاريخية، فبالرغم من أنهم عبيد ومماليك فقد أصبحوا سلاطين حقيقيين واستقلوا عن أسيادهم اﻷيوبيين تماماً، واستمرت دولتهم لفترة طويلة لأكثر قرنين من الزمن. ويعتبر بعض الباحثين أنهم لم يكونوا عبيداً بشكل فعلي، وإنما بقي ذلك مجرد لقب لهم. وقد حاول الشيخ عز الدين السلام أن إصدار فتوى بوجوب بيعهم ووضع ثمنهم في بيت مال المسلمين عندما كان قاضياً للقضاة، وقد أثر ذلك فيهم بعض الشيء، لكنه لم يسفر عن إلغاء سلطتهم.
2. اﻹنجازات الحضارية والعسكرية الكبيرة التي تمكنوا من تحقيقها بالرغم من صعوبة الظروف وكثرة الحروب والصراعات الخارجية والداخلية.
3. اشتمال دولتهم على جغرافية قلب العالم اﻹسلامي، فلم تكن دولةً على أطراف العالم العربي بحيث تكون شهرتها محلية فقط.
4. كانت جسراً زمنياً لعبور العالم اﻹسلامي من الخلافة العباسية باعتبارها امبراطورية وإمامة إسلامية كبرى إلى الخلافة العثمانية باعتبارها هي أيضاً خلافة وإمامة إسلامية عظمى.
5. كانت أول دولة في تاريخ العالم تحقق نصراً حاسماً وفارقاً على المغول، ثم استمرت في دحرهم وهزيمتهم حتى القضاء عليهم تماماً.
6. هي الدولة التي تولت إكمال مشروع دحر الحملات الصليبية الكبرى على العالم اﻹسلامي بعد الدولة الأيوبية، وتمكنت من استعادة القدس مرة أخرى بعد صلاح الدين، وبقيت تحاربهم حتى اكتمال تحرير بلاد الشام وبيت المقدس منهم تماماً.
نشأته ووصوله للحكم
ولد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البُندُقْداري في بلاد الشركس أو الترك الواقعة في مناطق القوقاز والقرم حوالي عام 625 هـ الموافق 1228. وقد تم أسره واسترقاقه ثم بيع أكثر من مرة في أسواق بغداد وحلب والشام، اشتراه اﻷمير علاء الدين البندقداري وأصبح يُنسب إليه، ثم اشتراه الملك الصالح أيوب في دمشق وسماه “ركن الدين”. وقد لُقب بأبي الفتوح لكثرة غزواته وفتوحاته في البلاد التي احتلها المغول والصليبيين. وقد كانت صفاته القيادية مميزة، وجسمه كان ذو مهابة عسكرية وله كاريزما سياسية جاذبة، ونظراً لمواهبه الكثيرة، فقد تم إلحاقه بالمماليك البحرية، ثم تمت ترقيته إلى رتب القادة.
تولى بيبرس ملك مصر سنة 658 هـ، وقد اشتهر قبل ذلك بانتصاراته العسكرية الكبرى على الصليبيين في مصر منذ موقعة المنصورة ضد ملك فرنسا لويس التاسع قائد الحملة الصليبية السابعة، والتي كانت معركة فاصلة ردت الصليبيين على أعقابهم خائبين، وكان ذلك بتطبيق خطة “مصيدة المنصورة” التي رتبها بيبرس، ثم في قيادته العسكرية للفرقة اﻷولى في معركة عين جالوت الفاصلة ضد التتار والتي أنقذت مصر والعالم اﻹسلامي من شبح دمارٍ محقق كما حصل في بغداد وقبل ذلك في أقاليم خراسان والدولة الخوارزمية، فكانت هاتين المعركتين إيذاناًً ببواكير فتوحاته الكبيرة التي لم تنتهِ إلى أن وطد دعائم دولة المماليك الكبرى، والتي امتدت من مصر إلى الحجاز جنوباً إلى أقصى الشام شمالاً.
بعد معركة عين جالوت
بعد معركة عين جالوت قُتل الملك المظفر قطز، ويُعتقد غالباً أن بيبرس هو الذي قتله، لكن البعض يرون أنه بريء من ذلك بالنظر إلى سيرة حياته قبل وبعد هذه الحادثة، وأياً يكن الأمر، فليس من المستحيل أن يكون هو القاتل، خاصة بسبب سيطرة أجواء التغلب والصراعات على تلك الفترة. استلم بيبرس ملك مصر وتمت مبايعته وتلقب في البداية بالملك القاهر، ثم عدل عنه إلى لقب الملك الظاهر، ﻷن وزيره أشار عليه بأن جميع من تلقب بالقاهر من الملوك لم يفلح. وقد اضطر للقضاء على بعض الثورات التي قامت عليه مثل ثورة علم الدين سنجر وثورة الكوراني، كما قام بإلغاء جميع الضرائب التي كان قطز قد فرضها، وتعتبر هذه حركة سياسية ذكية كسب بها تعاطف الشعب، فقد تم إنجاز النصر على المغول فلم تعد هناك حاجة لهذه الضرائب.
وشرع على الفور في ترتيب أمور الدولة والولايات والتخطيط لعقد التحالفات والمعاهدات وإخضاع اﻷمراء المتمردين في الشام، وقام برسم الخطط الحربية لتحرير جميع بلاد المسلمين من التتار والصليبيين على حد سواء ولصد حملاتهم وهجماتهم الجديدة. كما اهتم بإقامة العدل بين الناس وتمكين الشريعة والقضاء على المفاسد والرذائل، كما قرب العلماء ولم يكن يعاقب منهم أحداً حتى من يغلط بالقول منهم في النصيحة. واتصف بكثير من الشجاعة والإقدام والدهاء السياسي والقوة في اتخاذ القرارات، إضافةً إلى الكرم وحب الخير والإحسان إلى الفقراء، وكثيراً ما كان يتنكر بين العوام لمعرفة أحوال الرعية وأحوال ولاته معهم، وكان يعاقب الولاة الظالمين للرعية بكل حزم وصرامة.
إحياء الخلافة العباسية
بقيت دولة المماليك منقوصة الشرعية لأسباب كثيرة مقارنة بدولة الأيوبيين، وذلك بالرغم من انتصاراتها الكبيرة ضد التتار والصليبيين، ويعود السبب في ذلك غالباً لغياب الخلافة العباسية التي كانت تقرّ شرعية السلاطين اﻷيبويين، وكذلك بسبب طبيعة المماليك الاجتماعية باعتبارهم عبيداً سابقين. وهنا فكر بيبرس بإعادة الخلافة العباسية بشكلها الرمزي اﻷخير قبل سقوطها في بغداد، وبالرغم من تسمية هذه الفترة في التاريخ أحياناً بالخلافة العباسية الثانية، إلا أنها عملياً اشتهرت أكثر باسم العصر المملوكي. حيث قام بيبرس بإحضار واحد ممن بقي على قيد الحياة من أمراء العباسيين وهو أبو القاسم أحمد بن الظاهر بأمر الله إلى القاهرة في رجب 659 هـ – يونيو 1261 م، وعقد له مجلساً من كبار أعيان البلد لمبايعته خليفة، ثم قام الخليفة العباسي بدوره بعد ذلك بتقليد بيبرس سلطنة البلاد الإسلامية في حفل آخر كبير، وتم إقرار الدعاء في خطبة الجمعة للخليفة العباسي والملك الظاهر بيبرس.
الجهاد ضد المغول والصليبيين
كان بيبرس هو من أشار على قطز قبيل معركة عين جالوت بقتل رسل هولاكو، وقد كان يكثر من الفتك بجيوشهم عبر مسيرته الجهادية طيلة فترة حكمه البالغة حوالي سبعة عشرة عاماً، ومن أهم هذه المعارك والفتوحات ما يلي:
– توحيد دمشق وولايات الشام من جديد مع مصر.
– فتح وتحرير قيسارية.
– فتح وتحرير حيفا وأرسوف.
– فتح وتحرير صفد.
– فتح قلعة اﻷكراد.
– إنجاز أهم فتوحاته وهو فتح أنطاكية.
– ضم السودان والحجاز.
وفي إحدى المرات بعث إليه أحد أمراء المغول رسالة يعيّره فيها بأنه عبد مملوك لا يحق له مقارعة الملوك! فلم يلتفت لهذه المهاترات السخيفة، وكان رده البليغ هو مواصلة الحرب ضد هؤلاء المغول وتحويل مناطقهم إلى حكمه وسيطرته، وبذلك يكون رده العملي الذي أثبت به فعلاً أنه ملك حقيقي يقارع كبار ملوك اﻷرض ويهزمهم.
النهضة المعمارية والتعليمية
أشرف الظاهر بيبرس في فترة حكمه على إنجاز كثيرٍ من معالم إعادة نهوض البلاد الإسلامية من ترميم القلاع، وشق طرق الإمداد، وإحياء النهضة المعمارية، وتأسيس المدارس التعليمية مثل المدرسة الظاهرية، وإصلاح الأماكن المقدسة مثل اﻷمر بكسوة الكعبة، ويمكن بذلك اعتبار هذه الفترة امتداداًً لفترة عصر الحضارة اﻹسلامية، فلم تخلُ من مظاهر نهضوية وعلمية لا بأس بها، وذلك أيضاً لا ينفي أنها كانت بداية مرحلة أفول شمس الحضارة اﻹسلامية.
توفي الظاهر بيبرس يوم الخميس 28/ 1/ 676 هـ – 1/ 7/ 1277 في دمشق، ودفن في المكتبة الظاهرية بعد حكم دام 17 عاماً، وقد تولى من بعده نجله اﻷكبر ناصر الدين الحكم، إلا أن حكمه لم يدم طويلاً، وتغلبت دوماً الطبيعة الصراعية على طريقة تولي الحكم في دولة المماليك، وبذلك تولى الحكم بعده المنصور قلاوون.
المراجع
1- كتاب حياة الظاهر بيبرس، محمود شلبي. ص 11-16، 32-34، 80-82، 109-114، 125-128، 203، 248-250، 275، 376.
2- الظاهر بيبرس رعب الصليبيين، نور الدين خليل. ص 30، 51-55، 97.
3- قــادة المماليك الثلاث (الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والأشرف خليل. د. عبد السلام جمعة محمد أمين. مجلة جامعة تكريت للعلوم. ص 207، 214.