السلطان قطز : قاهر جموع التتار

السلطان قطز : قاهر جموع التتار

لطالما اعُتبر السلطان قطز قائداً تاريخياً استثنائياً، وذلك نتيجة نجاحه في التجهيز لمعركة عين جالوت التي تعتبر واحدة من الأشهر في التاريخ الإسلامي، ولطالما كان اسمه أيضاً مقترناً بالملك الظاهر بيبرس قائد جيش المعركة، إلا أن المفارقات في هذه الأحداث كانت كثيرة، فعلى الرغم من شهرة الملك قطز الكبيرة فقد كانت حياته قصيرة، ولم تتجاوز مدة بقائه في الحكم سنة واحدة، وذلك مقارنة بالملك الظاهر بيبرس الذي أوفر حظاً منه بقيادة بعدد هائل من المعارك والحروب والفتوحات، والتي لم يحضر الملك قطز منها سوى أوائلها، وهي التصدي للحملة الصليبية السابعة على مصر، وإيقاف زحف المغول على العالم الإسلامي ومصر وتحرير كامل الشام من وجودهم.

ثم تنتهي القصة هنا بنهاية تراجيدية للغاية، حيث قُتل السلطان قطز بعد معركة عين جالوت وتولى الظاهر بيبرس الحكم، ثم عمل على مدى حوالي سبعة عشر عاماً على قيادة عشرات من الحروب والمعارك الكبرى ضد كلٍ من الصليبيين والتتار، وببراعة مماثلة للملك قطز، ويُعد هذا الجانب من أهم الفروقات بين مسيرتي القائدين.

طفولته ونشأته

بخلاف غالبية المماليك الذين يأتون من عائلات فقيرة ومتوسطة الحال في آسيا، فقد كان قطز سليل عائلة حاكمة مسلمة حكمت مناطق واسعة في خراسان وما حولها، وهي الدولة الخوارزمية التي دمرها التتار، حيث سبوا معهم قطز وهو طفل وباعوه في بلاد المسلمين، ويُقال أنهم هم الذين أطلقوا عليه اسم قطز والذي يعني الكلب الشرس باللغة التتارية، واسمه الأصلي هو محمود بن ممدود، وتاريخ ميلاده غير معروف بشكل دقيق، وأقرب تاريخ مرجّح هو عام 628 هـ 1231 م، وبهذا فقد نشأ قطز منذ صغره على العداء للتتار والرغبة في الانتصار عليهم، كما ساعدته نشأته المبكرة في أسرة حاكمة على أن يكون موهوباً في الجوانب الإدارية والعسكرية والسياسية، فقد كان السلطان جلال الدين الخوارزمي هو خاله وابن عم والده، وقد تعلم قطز اللغة العربية وأصولها، وحفظ القرآن الكريم، ودرس الحديث ومبادئ الفقه الإسلامي. 

ونتيجةً لكل ذلك، فقد كان تدرجه في الخدمة العسكرية يجري سريعاً، وفي هذه الأثناء كانت الدولة الأيوبية في مرحلة التفكك الأخيرة، حيث انتهت بمقتل السلطان توران شاه، وتقول بعض المصادر بأن قطز رآى في طفولته في المنام أنه سيصبح سلطاناً على مصر، ولكن يصعب التأكد من صحة ذلك، وبالعموم فقد ذكر المؤرخون أن قطز كان شابًّا أشقر كثيف اللحية، رابط الجأش ومترفعاً عن المحارم، كما كان يحافظ على الصلاة والصيام وتلاوة الأذكار.

انخرط قطز مع مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب، وبعد وفاة الملك الصالح أيوب، تولى الحكم ابنه توران شاه لبعض الوقت حتى مقتله، ثم تولت أرملة الملك الصالح أيوب شجرة الدر زمام الحكم، ولكن هذا لم يدم طويلاً بسبب اعتراض الخلافة العباسية وغالبية الشعب في مصر، فاضطرت للزواج بالقائد المملوكي معز الدين أيبك وتسليمه الحكم، فبدأ بذلك عهد دولة المماليك، وبدأت قوتهم بالظهور، وخاصة باعتماد السلطان معز الدين على فرقة المماليك البحرية، ومنهم الظاهر بيبرس وقائده فارس الدين أقطاي، وكانوا ذوي قوة كبيرة وأصحاب خبرات ومواهب عسكرية فذة، مما ساهم بشكل كبيرة في انتصارهم على الحملة الصليبية السابعة على مصر في معركة المنصورة عام 648 هـ الموافق 1250 م.

قطز سلطاناً على مصر

منذ مجيء قطز إلى مصر عمل في خدمة الأمير إيبك المملوكي وأصبح من أكثر رجاله إخلاصاً له، وعندما أصبح إيبك سلطاناً أصبح قطز نائبه، كما اشترك قطز مع السلطان أيبك في معركة عند بلدة العباسة ضد الملك الناصر الأيوبي، وقام إيبك بتشكيل فرقة جديدة من المماليك أطلق عليها المماليك المعزية، وذلك في مقابل فرقة المماليك البحرية بقيادة فارس الدين أقطاي التي أسسها الملك الصالح أيوب سابقاً، إذ أصبحت الفرقة البحرية ذات نفوذ كبير في الدولة وأصبحوا يشكلون خطراً على سلطة إيبك، فأراد معز الدين أيبك تقليم أظافرهم، فجمع قادتهم في القلعة وقتل عدداً منهم وهرب الباقون، وقد شارك قطز في قتل قائدهم فارس الدين أقطاي، بينما هرب الظاهر بيبرس والآخرون إلى الشام وغزة، ثم قتلت شجرة الدر زوجها السلطان معز الدين، ثم تم قتلها بسبب ذلك.

استلم الحكم المنصور دين الدين علي ابن السلطان أيبك وكان صبياً مراهقاً، كما تجددت الخلافات بين فرقة المماليك المعزية ومن بقي من المماليك البحرية الذين أرادوا تنصيب الأمير علم الدين سنجر الحلبي، فأصر المعزية بتعصبٍ حزبي على تنصيب ابن قائدهم السابق إيبك رغم صغره، لكنه بقي أميراً شكلياً بإشراف أمراء المماليك بقيادة قطز الذي كان يسيطر على الأمور فعلياً، وبرغم أن الخلافات أيضاً قد وقعت بينهما إلا أن قطز تمكن من تسيير الأمور لثلاث سنوات، وذلك حتى وصلت أخبار الغزو المغولي للشام، كما وصلت رسالة من قائدهم إلى قطز تهدد مصر بالغزو، فجمع قطز كبار القادة وقرر عزل الأمير الصبي وتنصيب نفسه سلطاناً مؤقتاً ريثما يتم الانتهاء من محاربة التتار، وذلك في سنة 657 هـ 1259 م، وقد تمكن من توطيد حكمه والقضاء على المعارضين من أمراء المماليك الآخرين.

معركة عين جالوت

جاءت هذه المعركة في ظروف صعبة للغاية بكثرة الخلافات والنزاعات بين الدولة المملوكية الجديدة وبقايا أمراء الأيوبيين في الشام، والذين كانوا يحاولون استعادة مصر، بالإضافة إلى الخلافات بين فرق المماليك أنفسهم، ويُضاف إلى ذلك خطر الصليبيين، فلم يكن آنذاك ينقص المسلمين خطر جديد وهو الخطر المغولي الماحق، وبرغم محاولة قطز التصالح مع أمراء الأيوبيين لتوحيد الصف فقد رفضوا، وهنا قرر قطز التصالح مع قادة المماليك البحرية لتوحيد قوتهم إلى قوة المماليك المعزية، حيث أيقن أنه لا يكفي جيش واحد لهزيمة التتار، بل يحتاج الأمر إلى جمع أكبر عدد ممكن من الجيوش المسلمة، فأرسل إلى القائد بيبرس ومن معه بالعفو الكامل عنهم، واستقبلهم في مصر بحفاوة بالغة، فكسبهم إلى جانبه بذلك، وأمن من قيام أي جهة أخرى باستغلالهم، كما ضمّ إلى جيشه أعداداً كبيرة من الهاربين إلى مصر من بطش التتار في الشام والعراق.

كان الإعداد لمعركة عين جالوت هو أكبر منجزات السلطان قطز والتي وضعته في مصاف كبار القادة التاريخيين، فعلى الرغم من أن الفضل بعد الله في نجاح المعركة عسكرياً كان لفرقة المماليك البحرية وخاصة الظاهر بيبرس، إلا أن القيادة السياسية والاستراتيجية كانت بجهود وعبقرية السلطان قطز، والأهم من ذلك هو الإرادة الشعبية الإسلامية التي كانت مصممة على تحقيق الاستعدادات وإنجاحها على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

وبسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة وقتذاك في مصر، فقد أفتى الإمام العز ابن عبد السلام بجواز أخذ الدولة للضرائب بشرط تساوي  المتنفذين والأغنياء مع عامة الشعب في ذلك أولاً، وإذا لم تكف فيجوز الأخذ من الفقراء بقدر ما يلزم، فاستغل قطز هذه الأموال بأفضل الطرق لإعداد الجيوش وبناء القلاع والجسور وتموين الجيوش، ثم أخذ بترتيب أمور الحكم داخلياً، فعزل الوزير ابن بنت الأعز الذي نصبته شجرة الدر، ووضع مكانه زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع، كما أقر على قيادة الجيش القائد فارس الدين أقطاي الصغير من المماليك البحرية لكفاءته وأمانته وليبعث برسالة طمأنة للمماليك البحرية.

في هذه الأثناء وصلت رسالة جديدة من هولاكو إلى قطز، وفحواها وجوب الاختيار بين إعلان الحرب على مصر أو الاستسلام، فجمع مجلسه وقرر المواجهة، وقام بقتل الرسل الأربعة للتتار وعلق رؤوسهم في القاهرة وذلك بمشورة من بيبرس، ثم بعث برسائل لعقد اتفاقات هدنة مع الصليبيين وأبرم معهم معاهدة عكا، حيث كان التتار أيضاً عدواً مشتركاً لهم مع المسلمين، ولم يبق سوى اختيار الزمان والمكان المناسبين لخوض المعركة، وفي الطريق وقعت معركة صغيرة مع التتار في غزة، حيث انتصر في المسلمين وارتفعت معنوياتهم.

بعد معركة عين جالوت حيث قُتل معظم جيش التتار، نجح السلطان قطز أيضاً في مباغتة حاميات التتار في دمشق وسائر مدن الشام، كما نجح في بث الرعب في عبر وسائل الحرب النفسية، فقد بعث رسالة أخبار النصر إلى دمشق فور انتهاء المعركة، مما أثار في نفوس الشعب الثورة ضد جنود التتار الذين انهارت معنوياتهم، وعندما دخل دمشق عمل على تغيير قاضي دمشق حرصاً على استتباب الأمن بسرعة، فقام القاضي بالفصل بين القضايا بالعدل، وخاصة في ما يتعلق بالنصارى بالرغم من ميلهم للوقوف مع التتار، وذلك تجنباً لظلم الأبرياء منهم، وقد تم كل ذلك بسرعة غير معهودة في التاريخ، ثم أمر القائد بيبرس بتتبع فلول التتار حتى تحرير معظم الشام منهم، وعمل على ترتيب أمور الولايات والمدن الشامية الكبرى من حمص وحلب، وتصالح مع بعض أمراء الأيوبيين لتوحيد الصف، وأعلن إعادة توحيد مصر والشام من جديد.

مقتله وما قيل فيه

بعد الانتهاء من تحرير الشام من التتار، وبعد أن قفل السلطان قطز راجعاً مع الجيش، تزينت القاهرة لاستقباله وأقيمت الخيمة السلطانية، ولكن بدأت العلاقات بين قطز وبيبرس بالتدهور، فقد كان قطز قد قتل فارس الدين أقطاي زعيم المماليك البحرية بأمر من السلطان معز الدين إيبك، ومن المعروف أن المماليك تظل وفية بشكل دائم لقادتها وأساتذتها بحكم ما يسمونه “رابطة الخشداشية”، ويعد هذا هو السبب المرجّح قيام الظاهر بيبرس بقتل السلطان قطز وفاءً لقائده فارس الدين أقطاي، فاتفق مع جماعة من أمراء المماليك الصالحية وأضمروا لقطز الشر والتقوا به في طريق عودته من رحلة صيد، وتظاهروا بتقديم الولاء له وقتلوه سنة  هـ الموافق 1260م.

وقد اختلف المؤرخون حول السبب الحقيقي، ما بين قائل بأن قطز كان قد وعد بيبرس بولاية حلب ثم تراجع، وغير ذلك من أسباب، لكن السبب الحقيقي يُرجح أن يكون عائداً لحادثة قتل القائد أقطاي وتشريد المماليك البحرية وما عانوه من صعوبات وسجن ومطاردات، وبهذا يتضح أن طبيعة انتقال الحكم بين المماليك هي على هذا الشكل من التنافس والاقتتال بسبب طبيعة تكوينهم ونشأتهم ونظامهم الاجتماعي القائم على أنظمة تؤدي أحياناً إلى ظهور التناقضات.

الخاتمة

تميّزت سيرة حياة الملك قطز بقلة المصادر التاريخية بسبب عدم اهتمام الكثيرين به عندما كان مملوكاً صغيراً، بالإضافة إلى قصر مدة حكمه وطغيان فترة الظاهر بيبرس التي تلته مباشرة، حيث كانت طويلة ومليئة بالمنجزات، ولكن هذه الفترة القصيرة من الحياة والحكم استطاع فيها قطز أن ينجز إحدى أكبر المنجزات التي عجز عنها قادة آخرين كانوا أطول عمراً وبقاءً في الحكم، ومن الواضح كذلك أن اللحظة التاريخية كانت فارقة، فهو لم يكن إنجازاً أسطورياً على المستوى الفردي كما يتصور البعض عادةً، بل هو قائم على القدر الإلهي أو ما يسمى الحظ السعيد الذي وضعه في هذا المكان، ثم إلى جهود وأعمال آلاف الجنود والقادة من المسلمين من حوله، والتي لو تكن في معظمها كبيرة ومتميزة لما تمكنوا من هزيمة هذه الجموع الهائلة من جيوش التتار بإذن الله، حيث سبق للتتار أن هزموا العديد من جيوش الممالك والامبراطوريات الكبرى، ويبقى عزاؤنا هو أن تأثير منجزات وبطولات الملك قطز ستبقى مشعلاً خالداً للقادة والأجيال من بعده بإذن الله إلى يوم الدين.

المراجع:

1 – السلطان المظفر سيف الدين قطز، د. قاسم عبده قاسم.

2 – السلطان سيف الدين قطز، منصور عبد الحكيم.

3 – السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت، د. علي محمد الصلابي.