قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَتُفْتَحَنَّ القُسطَنْطِينِيَّةُ فلنعمَ الأميرُ أميرُها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش) رواهُ أحمد والحاكم
البشارة النبوية التي تسابق الكثيرون لتحقيقها طمعا في أن يكونوا المعنيين من حديث رسول الله عليه الصلاة و السلام. بداية من عهد معاوية بن أبي سفيان. لكن كل المحاولات باءت بالفشل. فشاءت الأقدار أن يأتي القائد السلطان محمد الفاتح بعد ثمانية قرون لتتحقق النبوءة على يديه، ويفتح مدينة القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، التي استعصت على كبار قادة العالم آنذاك.
من يكون صاحب البشارة هذا؟
هو محمد خان الثاني بن مراد بن محمد العثماني. الابن الرابع للسلطان مراد الثاني من زوجته “هوما خاتون”. يعد السلطان السابع الذي يحكم الدولة العثمانية، ومن أشهر ألقابه؛ “محمد الفاتح” وذلك لفتحه الشهير لمدينة القسطنطينية. كما وكان أول من يحمل لقب “قيصر روم” من المسلمين عامة، ومن العثمانيين خاصة. أما الأوروبيون فقد كانوا يطلقون عليه لقب “إمبراطور الترك” لما حققه من إنجازات وانتصارات عظيمة خلدت اسمه عبر التاريخ.
نشأته
ولد السلطان محمد الفاتح في الثلاثين من مارس، عام 1432م، بمدينة أدرنة (عاصمة الدولة العثمانة آنذاك).
تقول الروايات أن والده السلطان مراد الثاني كان متحمسا جدا لميلاد وريث عرشه، فلما جاءه خبر دخول زوجته المخاض ظل مستيقظا طوال الليل، يتلو القرآن الكريم. فزف إليه خبر إنجاب زوجته صبيا وهو يقرأ سورة الفتح. فتهللت أساريره والتمعت عيناه سرورا، فقال: “الحمدلله لقد تفتحت وردة محمدية في روضة مراد”، فسماه محمد.
نشأ محمد الفاتح في بيئة إسلامية محافظة، نتيجة لتتلمذه على يدي أكبر مشايخ زمانه، أمثال؛ آق شمس الدين و أحمد الكوراني اللذين بذلا قصارى جهدهما في تعليم السلطان الصغير. ذلك بناء على طلب وأوامر والده الذي حرص على أن يتلقى ابنه مستوى عاليا من التعليم، ليصبح جديرا بمنصب حاكم الدولة وأهلا للمسؤولية.
فدرس محمد الفاتح القرآن الكريم وتعلم الفقه والحديث، بالإضافة إلى علم الفلك والرياضيات. كما وكان السلطان محمد الفاتح فصيح اللسان في العديد من اللغات، كالعربية والعبرية واللاتينية والفارسية، واعتبر الكثيرون ذلك علامة تشير إلى رغبته في تكوين إمبراطورية تمتد عبر الغرب والشرق على حد سواء.
كانت جودة التعليم التي تلقاها السلطان محمد الفاتح خلال نشأته سببا في تفوقه في المجالين السياسي والعسكري، وفي صقل شخصية القائد الفذ الذي حكم بناء على مبادئ الشريعة الإسلامية.
توليه الحكم للمرة الأولى وتنازله عنه
قام السلطان مراد الثاني في 13 يوليو، سنة 1444م، (الموافق ل26 ربيع الأول، سنة 848 هـ) بإبرام معاهدة سلام مع إمارة “قرمان” بالأناضول، وتلى ذلك وفاة بكره “علاء الدين”، فحزن عليه والده أشد الحزن، فقرر التنازل عن العرش لابنه محمد الذي كان يبلغ من العمر آنذاك أربع عشرة سنة، وسافر إلى ولاية “أيدين” لكي يقيم هناك بعيدا عن هموم الدنيا ومشاغلها. لكن لم يلبث طويلا حتى جاءه خبر نقض المجر لمعاهدة السلام وإغارتهم على “بلغار”. وذلك بناء على تغرير مندوب البابا، الكاردينال “سيزاريني” الذي أقنع ملك المجر بأن عدم الحفاظ على العهود مع المسلمين لا تعتبر نقضا ولا حنثا.
وبناء على الأحداث الأخيرة، كتب السلطان محمد الثاني إلى والده رسالة طالبا منه العودة ليحكم البلاد، وذلك في حال وقوع معركة مع المجر، لكن والده رفض طلبه. الأمر الذي أشعل نيران غضب محمد الثاني فكتب إلى والده مجددا قائلا: “لو كنت أنت السلطان بحق، فارجع وسر بجيشك إلى المعركة. وأن كنت تراني أنا السلطان، فإني آمرك بالمجيء وقيادة جيشي في المعركة”. متؤثرا بهذه الرسالة، عاد السلطان مراد الثاني للملك وقام بقيادة الجيش الإسلامي في معركة “فارنا”، التي كان فيها النصر حليفا للمسلمين، وذلك يوم 10 نوفمبر، سنة 1444م (الموافق ل28 رجب سنة 848 هـ).
وتقول الروايات بأن ممارسة الضغط من قبل “خليل باشا” على السلطان مراد الثاني كان أحد الأسباب الداعمة لعودته للحكم. إذ لم يكن مولعا بحكم السلطان محمد الثاني، وذلك لأن الأخير كان متأثرا بمعلمه “أحمد الكوراني” والذي كان على خلاف مع الباشا.
العودة للعرش للمرة الثانية
على الرغم من أن محمد الثاني ترك العرش طواعية لوالده، كان من الواضح أنه شعر بالإهانة كقائد. عاد بعد ذلك إلى مانيسا في منطقة بحر إيجة، حيث تزوج واستمر في تطوير مهاراته. اكتسب الملك الشاب أيضًا رؤية عسكرية من خلال الإنضمام إلى والده في معركة كوسوفو عام 1448م.
عندما توفي والده السلطان مراد الثاني عام 1451م، اعتلى محمد الثاني العرش مرة أخرى، ولكن هذه المرة مع العديد من الدروس المستفادة ودرجة أعلى من الخبرة تحت حزامه.
سعيًا لإثبات نفسه في عيون كبار الشخصيات العثمانية والشعب وتحقيق هدفه النهائي في صنع التاريخ، كانت عيناه مركّزتين على غزو القسطنطينية (العاصمة البيزنطية آنذاك). فأطلق على الفور الاستعدادات اللازمة لتنفيذ خطته.
فتح القسطنطينية
في ما لا يتجادل فيه اثنان كون القسطنطينية أحد أعظم وأغنى المدن التي مرت على عبر العصور. اشتهرت بحصونها المنيعة (جدران ثيودوسيان الضخمة)، و أسطولها البحري، وموقعها الجغرافي الإستراتيجي الذي سمح لها باكتساب قوة اقتصادية عظمى، بسبب استحواذها على العديد من الطرق التجارية التي تربط بين قارتي آسيا وأوروبا.
جل الأسباب الفارطة جعلت القسطنطينية تشد انتباه واهتمام جميع مماليك وإمبراطوريات العالم حينذاك، ساعين للسيطرة عليها ونهب ثرواتها إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل فصمدت هذه المدينة العظيمة أمام تسعة وعشرين حصارا، حتى قدوم الجيش العثماني بقيادة السلطان القائد محمد الفاتح الذي سيطر عليها كليا.
كان لمحمد الثاني شيئًا واحدًا افتقر إليه المحاصرون السابقون للقسطنطينية: المدافع. في الواقع، تم عرض المدافع على البيزنطيين أولا من قبل مخترعهم المهندس المجري “أوربان”، لكن الإمبراطور قسطنطين لم يتمكن من توفير السعر اللازم لشرائه. بعدها قام أوربان بعرض السلاح على السلطان محمد الفاتح، الذي أظهر اهتماما أكبر وعرض عليه أربعة أضعاف السعر الذي طلبه.
تجمع الجيش العثماني عند أسوار مدينة القسطنطينية في الثاني من أبريل عام 1453م، عندئذ حصل البيزنطييون على أول لمحة عن مدافع محمد. أكبرها كان طوله 9 أمتار مع فتحة فم بعرض متر واحد. تم اختباره بالفعل، ويمكنه إطلاق كرة تزن 500 كيلوغرام فوق 1.5 كيلومتر. كان هذا المدفع ضخمًا لدرجة أن تحميله استغرق وقتًا طويلاً، بحيث لا يمكن إطلاقه إلا سبع مرات في اليوم. ومع ذلك، كان لدى العثمانيين الكثير من المدافع الأصغر، كل منها قادر على الإطلاق أكثر من مائة مرة في اليوم.
في الخامس من أبريل، أرسل محمد طلبًا للإمبراطور البيزنطي لتسليمه المدينة، لكنه لم يتلق أي رد. وفي اليوم الموالي، تم تفجير الجدران العظيمة. لم يستطع دفاع المدينة فعل الكثير بمدافعهم الصغيرة، فحاولوا إصلاح فجوات الجدران باستخدام الصخور والبراميل، لكن بدون جدوى.
استمر الهجوم ستة أسابيع. بعدها أطلق السلطان محمد الثاني هجومًا هائلاً أخيرا، حيث ألقى كل شيء عليهم فجر يوم التاسع والعشرين من مايو. أول من تم إرسالهم بعد وابل المدافع المعتاد كانوا جنود من الدرجة الثانية، ثم تم إطلاق موجة ثانية بقوات أفضل تسليحًا، وأخيراً، هاجمت موجة ثالثة الجدران، هذه المرة مكونة من الإنكشارية (قوات مشاة وفرسان من النخبة بالجيش العثماني). خلال الموجة الثالثة، ضربت الكارثة البيزنطيين الذين اضطروا إلى توظيف النساء والأطفال للدفاع عن الجدران.
لكن تم ترك بوابة صغيرة في الأسوار الأرضية مفتوحة سهوا، فلم يتردد الإنكشاريون في استخدامها. صعدوا إلى أعلى الجدار ورفعوا العلم العثماني، ثم شقوا طريقهم إلى البوابة الرئيسية وسمحوا لرفاقهم بالتدفق إلى المدينة. انتشر الجيش العثماني في كل الأرجاء، وتم قتل الإمبراطور قسطنطين، والاستيلاء على المدينة.
أصبحت القسطنطينية العاصمة العثمانية الجديدة، وأضحت البوابة الذهبية الضخمة لأسوار ثيودوسيان جزءً من خزينة قلعة السلطان محمد الثاني، بينما سُمح للمجتمع المسيحي بالبقاء على قيد الحياة، وممارسة معتقداتهم الدينية بحرية.
كان محمد الفاتح يبلغ من العمر واحدا وعشرين عامًا فقط عندما أرسل الإمبراطورية البيزنطية إلى صفحات التاريخ الغابرة، مما جعل الدولة العثمانية إمبراطورية من شأنها أن تحكم مناطق متعددة عبر ثلاث قارات لقرون قادمة.
فتوحات أخرى
إلى جانب فتح القسطنطينية قام السلطان القائد محمد الفاتح بالعديد من الفتوحات الأخرى، أهمها:
1. بلاد الصرب: عام 863 هـ (1459م).
2. بلاد المورة في اليونان: عام 865هـ (1461م).
3. طرابزون، وبلاد الأفلاق والبغدان (رومانيا): عام 866هـ (1462م).
4. ألبانيا: بين عامي 867 و884 هـ (1463 و 1479م).
5. البوسنة والهرسك: عامي 867 و870 هـ (1463 و 1466م).
زوجات وأولاد السلطان
اتخذ السلطان محمد الثاني العديد من النساء زوجات له، منهن من تزوجها تقليديا، ومنهن من تزوجها لأسباب سياسية بحتة. فتزوج من:
أمينة قلبهار خاتون: بنت عبدُ الله ولدت عام 1432م، الزوجة الأولى للسلطان مُحمَّد الثاني، ووالدة ولي .عهده، السلطان بايزيد الثاني. توفيت سنة 1492م، و دفنت في مسجد الفاتح، بإسطنبول
قلشاه خاتون: من أصل أبخازي. في سنة 1449م تزوَّجها السُلطان في مغنيسية قبل وفاة والده مُراد الثاني.
ستي مُكرَّمة خاتون: والدها سُليمان بك أمير ذي القدريَّة. اتخدها الفاتح زوجة له لاسباب سياسية.
شيشك خاتون: ولدت في بورصة بترميا عام 1443م. تزوجت بالسلطان محمد الفاتح في القسطنطينية وأنجبت طفلها الوحيد جم في 22 ديسمبر 1459م، يروى أنه كان لها ابنا أكبر من جم يدعى شهزاده مصطفى ولكنه مات صغيرًا. توفيت في القاهرة بمصر ودفنت بها عام 1498م.
حنَّة خاتون: والدها الإمبراطور الطرابزُني داود كومنين. تزوجها السلطان محمد الثاني بعد فتح طرابزون.
خديجة خاتون: والدها زغانوس باشا.
أبناؤه
بايزيد الثاني: ولد عام 851 هـ، المُوافق لِسنة 1447م، في سراي ديموتيقة بِالروملِّي. والدته هي أمينة كلبهار خاتون. وكان بكر أبيه، وخليفته للعرش.
مُصطفى: ولد عام 1450م. والدته كلشاه خاتون. وكان الولد المفضل عند السلطان محمد الثاني. توفي بعام 1474 لأسباب طبيعية وتم دفنه في بورصة.
جَمّ سُلطان: ولد عام 1459م، والدته شيشك خاتون. كان في نزاع مع أخيه بايزيد الثاني حول وراثة العرش. توفي في عام 1495م، في مدينة كاپوة النبلطانيَّة. بعد ذلك تم نقل جثمانه لبورصة إلى جانب أسلافه.
ابنته
جوهرخان خاتون: ولدت بعام 1454م، ابنة أمينة كلبهار خاتون، وزوجة أوغورلي محمد، أنجبت منه ولي العهد “أبو النصر أحمد كوده”. توفيت في عام 1514م ودفنت بإسلامبول بجابنب والدتها.
اهتمامه بالعلم والعلماء
كان السلطان محمد الفاتح مولعا بالعلم والعلماء. فأولى اهتماما كبيرا لهذا المجال. فبنى المعاهد والمدارس وجعل التعليم مجانا للجميع. واتخذ على عاتقه مهمة نشر العلم في كافة المدن. كما قام بإضفاء العديد من التغييرات في المناهج التعليمية قصد تطويرها. فمثالا على ذلك وضعه لنظام اختبارات عالية الدقة وذلك كأساس للانتقال للمرحلة الموالية.
أما بالنسبة للعلماء فقد كان قريبا منهم طوال الوقت، مكرما مشجعا لهم. لا ينفك يهب لهم الهدايا والمراتب العليا. ويروى أنه بعدما هزم “أوزن حسن” أعطى الأوامر بقتل جميع المساجين والأسرى إلا من كان عالما أو صاحب معرفة لكي يستفيد من علمهم.
رافق الشيخ “أحمد الكوراني” السلطان محمد الفاتح منذ نعومة أظافره. فتعلق به أيما تعلق وجعل له مكانة رفيعة، إذ لم يكن ينحني للسلطان ولا يقبل يده، بل كان يدعوه باسمه “محمد”، ويصافحه كأنه صديق.
إلى جانب الشيخ آق شمس الدين الذي كان أحد أقرب المعلمين للسلطان محمد الفاتح. فقد كان من العلماء الذين قاموا بالإشراف على تدريب السلطان على الأمور الإدارية وتعليمه مبادئ الحكم، عندما تولى إمارة “أماسيا”. وكان الشيخ آق شمس الدين أول من يلقي خطبة يوم الجمعة في مسجد “آيا صوفيا”.
ومن شدة شغفه بالعلم، كان السلطان محمد الفاتح يأمر المترجمين بترجمة الكتب الأجنبية (بشكل خاص اليونانية) في شتى المجالات إلى اللغة العربية والتركية. وكان كريما سخيا في مكافآته للمترجمين.
إلى جانب العلم، كان للشعر مكانة خاصة أيضا لدى محمد الفاتح. فضم قرابة الثلاثين شاعرا لبلاطه. فصاحبهم وجعل لهم مكانة مرموقة وخصص لهم راتبا شهريا محترما.
اهتمامه بالعمران
في عهد السلطان محمد الفاتح تم تشييد وبناء العديد من المستشفيات والمعاهد والقصور والحدائق والأسواق. كما شجع أصحاب النفوذ على زيادة إنعاش المجال العمراني، بغية إضفاء جمالية ورونق إلى المدن. ولقد أولى جل شغفه للعاصمة “اسلام بول”، فكان يريد جعلها أجمل عواصم العالم.
و من أبرز المعالم العمرانية في عهده هو مسجد “آيا صوفيا” الذي كان في السابق عبارة عن كنيسة فأضحى مسجدا يحمل اسم السلطان. بالإضافة إلى “قصر الباب العالي”.
وفاته
في الثامن من ربيع الأول، عام 886 هـ الموفق ل1481م توفي السلطان الغازي محمد الثاني. حيث انتفضت روحه إلى الرفيق الأعلى وهو بين جيشه يستعد للانطلاق بجيشه لفتح إيطاليا كما يعتقد المؤرخون.
في حياة قصيرة استمرت 49 عامًا فقط، تمكن الفاتح من ترك بصمة لا تمحى في التاريخ ولا يزال إرثه حياً حتى اليوم.
المراجع
1- الفتوح الإسلامية عبر العصور، لعبد العزيز العمري.
2- سالم الرشيدي، محمد الفاتح، لسالم الرشيدي.
3- فتح القسطنطينية، لمحمد صفوت.
4- تاريخ الدولة العثمانية، ليلماز أوزونتونا.
5- د.علي الصلابي (2006) ، فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح.