الشيخ آق شمس الدين: مكتشف الميكروبات والفاتح المعنوي للقسطنطينية

الشيخ آق شمس الدين: مكتشف الميكروبات والفاتح المعنوي للقسطنطينية

لطالما تم تسليط الأضواء على القادة العسكريين الذين كانوا يقفون بالصف الأول في الجيش، وإعطاءهم جلَّ التقديرِ والثناءِ وراء الانتصارات المحققة، مُتناسينَ بذلك المجهودات المبذولة من طرف العلماء والمفكرين الّتي ما تظلّ دومًا وراءَ الكواليس.

لا يخفَى على أحد أنَّ فتح القسطنطينية على يدِ السلطان الفاتح محمد بن مراد الثاني يُعد أحد أبرز الأحداث التي غيرت مجرى التّاريخ الإسلامي والعثماني. إلَّا أنَّ ما لا يعلمه العديد هو الدور المحوري الّذي لعبه الشيخ “شمس الدِّين آق” في تحقيق هذا النصر الساحق، حتَّى أنَّهم أطلقوا عليه لقب “الفاتح المعنوي” و”الأب الروحي لفتح القسطنطينية”. فمن هوَ هذَا البطل الّذي لم يتم إنصافه؟

نشأته

هو محمد شمس الدين بن الشيخ حمزة، الملقب بـ آق شمس الدين، وُلد عام 1389م (المُوافق لِ 792 للهجرة)، في دِمشق، سوريا. تقول المصادر التاريخية بأنَّ نسبه يعود للصحابي الشريف والخليفة الأوّل أبِي بكر الصديق -رَضِيَ الله عنه-. أتم حفظ كتاب الله وهو بعمر السبع سنوات، بعدها انتقل إلى مدينة “أماسيا” مع أسرته.

كان مهتما بالعلوم والفنون منذ نعومة أظافره، فدرس بأماسيا ثم بحلب ثم بأنقرة أين لازم الشيخ الحاج بيرام وأخذ عنه طرقه الصوفية. بذل مجهودا كبيرا في تحصيل مختلف العلوم الدنيوية والدينية، فبرع في العديد من المجالات كالطب والفلك والصيدلة والرياضيات والعلوم الإسلامية، حتى جابت شهرته الآفاق، وأضحى موسوعة زمانه، ودرّس بمدارس عثمانية عديدة وتتلمذ على يده نخبة من العلماء العثمانيين.

تقول بعض المصادر التاريخية بأنه قد أُتيحت له الفرصة للذهاب للحج سبع مرات، كما حظي باثني عشر طفلاً، إلاّ أنّه قد تم ذكر عشرة أطفال فقط في المصادر الأخرى المتاحة.

أعماله

قام بتأليف العديد من الأعمال في شتّى المجالات، خاصةً في ما يتعلق بعلم النبات وكيفية استخلاص الأدوية منه للعلاج، حتَّى شاع المثل القائل: “إنَّ النباتَ ليُحَدِّثُ آق شمس الدٍّين”. بالإضافة إلى تأليفه لسبع كتب باللغة العربية أبرزها:”حل المشكلات” و “الرسالة النورية” و “رسالة في ذكر الله” و “مقامات الأولياء”.

اهتم كذلك بالأمراض النفسية، حتى أُطلق عليه لقب “طبيب الأرواح. دونَ أن ننسى اِكتشافاته وأبحاثه المهمة في المجال الطبي، وبشكل خاص الأمراض المعدية. حيث يعتبر  أول من اكتشف الميكروبات، حتى قبل اختراع المجهر، وأعطى لها تعريفا بسيطا ذكره في كتابه الذي يحمل عنوان “مادة الحياة”، حيث قال: “من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الأشخاص تلقائياً، فالأمراض تنتقل من شخص إلى آخر بطريقة العدوى، وهذه العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة، لكن هذا يحدث بواسطة بذور حية”، النتيجة التي أكدها البيولوجي والكيميائي الفرنسي لويس باستور باستعمال المجهر بعد قرابة أربعة قرون، 

كما كان مرض السرطان محل اهتمام له فكتب ودرس عنه كذلك.

تربيته وتعليمه لمحمد الفاتح

بدأت رحلة الشيخ “شمس الدين آق” مع السلطان محمد الفاتح عندما تولى الأخير إدارة “مغنيسيا” وهو غلام في الحادية عشر من عمره، بناءً على طلب والده السلطان مراد الثاني الذي أمر بإيجاد أفضل المعلمين والمربين لابنه، كي يكتسب الكفاءة اللازمة لحكم الدولة العثمانية يومًا ما. فكان الأمير الصغير محظوظا إذ أشرف عليه جمع من أساطين علماء الدين في عصره، وعلى رأسهم الشيخ آق شمس الدين الذي تم ترشيحه خصيصًا لتولي مهمة تربية وتهذيب محمد بعد رفض الأخير معظم أساتذته في السابق.

تم إِخضاع محمد الثاني لنِظام تربوي صارم ودراسة أكاديمية منظمة. فتعلم الأمير الصغير تحت إشراف معلمه الشيخ “آق شمس الدين ” العديد من العلوم مثل علم الفلك والرياضيات والتاريخ والقرآن الكريم والسنة والفقه، بالإضافة إلى اللغات الإسلامية الثلاثة التي لم يكن يستغني عنها أي مثقف عصري آنذاك وهي: العربية والفارسية والتركية.

كانت مرافقة الشيخ آق شمس الدين لمحمد الفاتح منذ صباه ذات دور محوري في شحذِ وصقلِ شخصية الأمير الصغير كقائد كفء، وأثّرت على توجهاته المستقبلية في المجال العسكري والسِّياسي والثَّقافي.

تعلَّق محمد بمعلمه أيّم تعلق، وأكنّ له فائق الاحترام والتقدير، حتى قال  لأحد وزرائه عن شيخه هذا: “إنّ اِحترامي لهذا الشيخ احترام يأخذ بِمجامع نفسي وأنا ماثل في حضرته مضطربًا ويدايَ ترتعشان”.

مساهمته في الفتح المعنوي للقسطنطينية

طِوال الفترة التي لازم فيها الشيخ “آق شمس الدين” لمحمد الفاتح، ظل يحكي له قصة الفتح العظيم المنتظر لمدينة القسطنطينية، ويردد على مسامعه الحديث النبوي الذي يتضمن هذه البشارة:《لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش》-رواه أحمد. كان يبث فيه منذ الصغر العزيمة اللازمة لتحقيق ذلك، مخبرا إيّاه أنّه هو الأمير المقصود بالحديث النبوي، فكبر محمد وكبرت معه الرغبة الجامحة في أن يكون صاحب النبوءة ومن يحقق حلم المسلمين.

شاءت الأقدار أن تُتوَّج مجهودات الشيخ  شمس الدين بتحقق النبوءة على يد تلميذه محمد الفاتح، الذي حقق نصرا ساحقا وفتح القسطنطينية عام 1453م، وهو لا يزال بعمر الحادية والعشرين سنة فقط.

تقول الروايات أنه خلال الحصار الذي فرضه الجيش العثماني على مدينة القسطنطينية  والّذي تُصرح المصادر التاريخية بأنَّه دام حوالي 50 يوما، تمَّ اِختراق جيش المسلمين مِن قِبل أربعة سفن بقيادة القائد الشهير “جوستنياني”، أرسلها البابا للدفاع عن القسطنطينية ونقل الإمدادات إليها، لم تستطع البحرية العثمانية صدَّها، الأمر الّذي أحبط نفوس الجنود العثمانيِّين وزعزع عزيمتهم.

وعلى إِثر ذلك، اِلتقى جمع من العلماء والأمراء بالسلطان محمد الثاني، وأخبروه بأنَّ أخذه بِرأي أحد المشايخ (يقصدون الشيخ آق شمس الدين) ودفع ذلك القدر الهائل من العساكر نحو هذا الهلاك يُعد خطأ فادح، وأنه لا مجال للفوز بهذه المعركة على هذا النحو. فأرسل السلطان لمعلِّمه برسالة يخبره بذلك، وما لبث حتَّى وصله الرد الذي تضمّن: 《هو المعزّ الناصر… إن القضية الثابتة هي أنّ العبد يدبر والله يقدر والحكم لله، ولقد لجأنا إلى الله وتلونا القرآن الكريم، وما هي إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات ما لم يحدث مثلها من قبل》.

سرت الطمأنينة في نفس السلطان وجنوده، وتغيرت مجرى الأمور للأفضل في ساحة المعركة حيث توصل السلطان إل خطة عبقرية للنيل من خصمه، وتقول المصادر التاريخية بأن محمد رغب أن يكون معلمه الشيخ آق شمس الدين بجانبه أثناء القتال، فبعث برسول إلى خيمة الشيخ، لكن الحراس منعوه من الدخول بناءً على أوامر الشيخ، فاستثار غضب السلطان محمد واحتدم، وقرر الذهاب إليه بنفسه، لكن الحراس منعوه من الدخول هو الآخر رغم كونه السلطان.

فأخرج خنجره وأحدث شقًا في الخيمة يسمح له بالدخول، فدخل على معلمه فوجده ساجدا سجدة طويلة، حتَّى أنَّ عمامته كانت قد وقعت من رأسه وتدحرجت أمامه كاشفة عن شعره المشتعل شيبًا، وسَمِعه يتذرَّع لله ويدعوه أن يُوَفق جيش السلطان محمد لربح المعركة، وعندما قام من سجدته كانت عيونه تسيل دمعا، فتأثر محمد بالمنظر الذي شاهده وعاد إلى جيشه مسرعًا، حيث تفاجأ بفتح جنوده لثغرات في أسوار القسطنطينية مما سمح بتدفق الجنود إلى المدينة والسيطرة عليها وقتل قسطنطين إمبراطور الدولة البيزنطية.

رفرفت رايات الدولة العثمانية في سماء مدينة القسطنطينية، ودخلها السلطان محمد الفاتح منتصرًا. وعلى إِثر هذا الفلاح، قال السلطان محمد: “لَيْسَ فرحي لفتح القلعة إنما فرحي بِوُجُود مثل هَذَا الرجل فِي زمني” قاصدا بذلك الشيخ “شمس الدين آق” وفي ذلك دلالة على حبه الشديد له، فلم يكن آق شمس الدين يقف عند دخول السلطان، ولا يُقبِّل يديه، بل كان يصافحه كأنّه صاحبٌ له، ويتحدث معه بدون رسميات أو تكلف.

عقب الفتح، حوّل محمد الفاتح أحد الكنائس بالقسطنطينية إلى مسجد يحمل اسم “آيا صوفيا” الآن (كانت آيا صوفيا أكبر كنيسة في العالم وأقدم مبنى في أوروبا بأكملها)، وكانت خطبة الجمعة الأولى التي تقام به من نصيب مربيه الشيخ ” آق شمس الدين” توقيرا وتقديرا له، فكان ما ينفك يلقي الخطب على محمد وجيشه، يزيد من عزمهم وهمتهم، ويحثهم على التمسك بأخلاقيات الشريعة الإسلامية السمحاء والحفاظ على أحكام الدين فيما يخص حقوق مواطني الدولة المفتوحة، ناهِيهم عن الجشع والغرور والوقوع في شباك نشوة النصر.

 قال في أحد خطبه للجنود: “يا جنود الإسلام، اعلموا واذكروا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال في شأنكم: 《لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش》. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا، وأضاف: 《ألَا لا تسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة ولا تبذروا وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه》. بعدها التفت إلى محمد وقال له: 《يا سلطاني، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله》”.

قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري

بعد فتح القسطنطينية، قام الشيخ آق شمس الدين بتحديد  موقع قبر الصحابي الجليل “أبو أيوب الأنصاري” الذي استشهد أثناء إحدى محاولات المسلمين الأولى لفتح المدينة، فقال: «إني أشاهد في هذا الموضع نورا، لعل قبره ها هنا» وأضاف: «التقت روحه مع روحي وهنأني بهذا الفتح» وقال: «شكر الله سعيكم حتى خلصتموني من ظلمة الكفر». تمَّ بناء قبة بذلك الموقع لاحقًا، بناءً على أوامرِ السلطان محمد الفاتح.

وفاته 

عاش الشيخ “شمس الدين آق” في فترة تاريخية حساسة، فكان نموذجًا حيًا للعالم والمفكر الذي يقدم كل ما بجعبته من علم ومعرفة وخبرة في سبيل خدمة أمته وقضاياها، وتمكن من صناعة قائد عسكري فذ يشهد له التاريخ بانتصاراته.

بعد فترة قصيرة من الفتح شعر الشيخ “آق شمس الدين” بالحنين لموطنه، ورغم محاولات السلطان محمد الفاتح على إبقاء معلمه قريبا منه في إسطنبول إلا أنه فشل في إقناعه، فاستسلم للأمر الواقع سامحا له بالرحيل، فلبث هناك قرابة الستة سنين حتى انتفضت روحه إلى الرحمن سنة 863هـ/1459م، في بلدة غوينوك.

نقف الآن أمام هذه السيرة الغنية التي تُظهر الدّور الريادي الّذي لعبه الشيخ آق شمس الدين في تعزيز الفتوحات الإسلامية، والذي سطَّر اسمه بأحرف من نور في التاريخ الإسلامي بصفته الفاتح المعنوي للقسطنطينية.

المصادر

-“العثمانيون في التاريخ والحضارة” للدكتور محمد حرب 2010.

-“كتاب التاريخ العثماني” للمنظومة التربوية التركية 2019.

-“دعوة جماعة قاضي زاده الإصلاحية في الدولة العثمانية قبل ظهور دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب وقيام الدولة السعودية” للمؤلف محمد بن عبد الوهاب 2018.

-“الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية” للمؤلف أحمد الشرقاوي 2020.