خلفية تاريخية
كانت الفتوحات اﻹسلامية في بدايتها سريعة بشكل غير معهود مقارنة بفتوحات أي امبراطورية كبيرة أخرى، فقد استغرق الفرس والروم عشرات ومئات السنين لغزو البلاد والدول من حولهم، بينما لم يستغرق المسلمين منذ الهجرة النبوية حتى فتح مصر سوى 20 عاماً. ويعود السبب في ذلك إلى أن نهوض الأمم وقيام الدول الكبرى يحتاج إلى وقت طويل، وفي حالة دولة اﻹسلام لم تكن المعجزة بعدم الحاجة لزمنٍ طويل، ولكن بوقوع التحضير المسبق بتقدير رباني.
فقد سبقت البعثة النبوية كثير من التحضيرات والإرهاصات التي من أهمها سيطرة قريش على مكة، كما سبقت الحرب اﻷهلية في يثرب الهجرة النبوية، والتي مهدت لنجاح تأسيس الدولة الجديدة، أما التحضيرات الربانية لفتح الشام والعراق فكان من أهمها وقوع الحرب الساسانية البيزنطية 602-628 م بين الفرس والروم قبلها، باﻹضافة إلى كثرة الاضطرابات والصراعات الداخلية عندهم.
في عقب نهاية حروب الردة في أنحاء الجزيرة العربية سنة 12 هـ، هرب عدد من بقايا المرتدين إلى العراق، فاستأذن القائد المثنى بن حارثة الشيباني أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بغزوهم هناك، وبعد أولى المحاولات، اكتشف بأن الأمور مهيأة كثيراً للبدء بفتح العراق وتحريرها من الفرس، فقد كان الفرس يتخبطون في خلافات كبيرة، كما أن علاقاتهم مع العرب المجاورين كانت في أسوأ حالاتها، فقام أبو بكر الصديق بوضع الخطط التي مكنت من فتح كثير من المناطق جنوب العراق، انطلاقاً من اﻷبلة حتى المصيخ في الشمال، ثم توفي رضي الله عنه. وبذلك فقد سبقت القادسية العديد من المعارك الصغيرة التي مهدت لها مثل معركة ذات السلاسل.
بداية فتوحات المسلمين في العراق
كان الوضع حرجاً في العراق أول يومٍ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 13 هـ، فبدأ بالدعوة للنفير والجهاد، خاصة بسبب انتقال خالد ابن الوليد بنصف الجيش إلى الشام للمشاركة في فتحها، وكان المثنى متحصّناً بالحيرة فجاء إلى المدينة مسرعاً لطلب المدد. وقد كان المسلمون على رغم قوة إيمانهم لا يرغبون في مواجهة الفرس بالذات، بسبب تاريخهم المليء بالشدة واﻹجرام، وهنا حاول عمر بن الخطاب تدارك الموقف ببث الحمية لتوحيد القبائل المسلمة حديثاً، وكانت الاستجابة كبيرة، ولكن بقيت حقيقة أن أعداد المقاتلين العرب تظل أقل في ذلك العصر من أعداد الفرس، واختير عمر أبو عبيد الثقفي قائداً للجيش.
كانت بلاد الفرس غارقة بالخلافات والصراعات على العرش، وفي زمن قصير تولى الحكم فيها عدة ملوك وتم خلعهم، إلى أن قامت بوران بنت كسرى بأخذ الحكم وتعيين رستم قائداً على الجيش لحرب المسلمين، فاستقرت لهم اﻷوضاع إلى حين، وبدأوا بتجهيزات كبرى من الجيوش الفارسية ومن ولاهم من العرب، وبدأت بعض المعارك المتفرقة بانتصار المسلمين في معارك النمارق والسقاطية وباقسياثا سنة 13 هـ 634 م. وهنا أدرك الفرس خطورة الموقف، فجمعوا جيشاً كبيراً بقيادة أكبر قائدين بعد رستم وهما الجالينوس وبهمن جاذويه مصطحبين معهم الراية الفارسية الكبرى والتقى الجيشين عند الفرات في معركة الجسر، واختار أبو عبيد اجتياز النهر رغم أن بهمن خيره بين البقاء والاجتياز، وبذلك وقع في الفخ بسبب زيادة الحماس والانفعال.
وكانت خسارة فادحة للمسلمين حيث اضطروا للفرار، وكان رد فعل المسلمين في المدينة صعباً، وأعاد عمر من جديد إطلاق حملات التعبئة، فجاء عدد من القبائل مثل بجيلة، كما اشترك مع المسلمين بعض من نصارى العرب في مقاتلة الفرس، إلى أن عوّض المسلمين عن الهزيمة بالنصر في معركة البويب، فقد تمكن المثنى من أن يعكس اﻷحداث فيها عن معركة الجسر لصالح المسلمين، وهنا كان رد فعل الفرس هو مزيد من توحيد صفوفهم، فقاموا بتولية يزدجرد الثالث على السلطة مما أدى لانضمام أهل السواد في العراق من جديد لهم، وبدأوا بإعداد العدة لمعركة فاصلة كبرى.
الاستعدادات لمعركة القادسية
أدرك عمر بن الخطاب خطورة الوضع واحتمال خسارة الانتصارات، فاستغل انتهاء معركة اليرموك في الشام ليصب تركيزه على العراق، وبعث بسرعة إلى المثنى بالانسحاب قليلاً وتوزيع القوى لتجنب خطر مواجهة شاملة قبل وصول الإمدادات الكافية، وقام بشن حملة تعبئة شاملة، حيث شملت حتى الذين ذهبوا مع خالد بن الوليد إلى الشام، وكاد أن يذهب بنفسه لقيادة المعركة، لولا أن الصحابة أصروا على بقائه خوفاً على الدولة، فقام بتعيين سعد ابن ابي وقاص قائداً عاماً للحملة في العراق، وبقي عمر يقود الحرب بنفسه حيث يقوم سعد بإطلاعه أولاً بأول على كافة التفاصيل العسكرية والجغرافية.
بقي سعد ابن ابي وقاص البقاء معسكراً في زرود طيلة الشتاء، مما ساعد على زيادة التحاق أعداد أخرى من المقاتلين بالآلاف، وقد اشتملت على خيرة أمراء الصحابة وأهل الحكمة والرأي فيهم باﻹضافة إلى سبعين من البدريين، وكان تقسيم قطع الجيش قبلياً كما كان تماماً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتم اختيار المكان بحيث يناسب العرب، ووهو قريب من حدود اﻷرض العربية المألوفة، وعلى أطراف أرض الفرس من دون التوغل في عمق أراضيهم.
تابع الفرس جمع أشد ما لديهم من قوى بعد هزيمتهم في معركة البويب، وكان عمر ابن الخطاب يهدف أيضاً إلى ضرب وهزيمة كامل قوى الفرس دفعة واحدة كي لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك، وتم اختيار فصل الربيع كأفضل وقت مناسب لمثل هذه المعركة الهائلة، ووصل عدد جيش المسلمين إلى ما يزيد عن الثلاثين ألفاً.
كان الملك الفارسي الجديد يزدرجرد الثالث قليل الخبرة والصبر، ورغم أنه اختار رجلاً كفؤاً لهذه المعركة وهو رستم، إلا أنه كان عجولاً ولم يشأ الاستماع لنصيحة رستم التي تقتضي تجنب مواجهة واحدة كبرى مع المسلمين قد تفضي بهم إلى الهزيمة، والاستعاضة عنها بسلسة من المعارك الصغيرة التي تستزف قوى الخصم. واضطر رستم لطاعة الملك مجبراً ويُقال أيضاً أنه عانى من اليأس نتجية أحلام مشؤومة كان يراها، وتفيد بحؤول المعركة للهزيمة ومقتل عدد لا بأس من قادة جيش الفرس.
تمكن المسلمين من تأمين إمدادت الطعام رغم شحها بداية الأمر، وذلك عبر الغنائم الوفيرة التي أخذوها من أهل السواد الذين خانوا العهود والمواثيق السابقة مع المسلمين قبل أن يجمع الفرس أمرهم ويوحدوا صفهم. وعلى الرغم من كثرة مماطلة رستم وطلبه المفاوضات عدة مرات لتضييع الوقت، إلا إن خيار دفع الجزية جعله يغتاظ بشدة، مما جعله يوافق حتى على نقل الجيش الفارسي إلى الضفة الأخرى حيث ينتظرهم جيش المسلمين، وكان جيشه يصل إلى حوالي مئة وعشرين ألف مقاتل معززين بالفيلة واﻷسلحة المتطورة.
أحداث معركة القادسية
تعد القادسية مثالاً على معركة شرسة ومتغيرة التخطيط بحسب المستجدات الدقيقة، فقد تميزت بتخطيط استراتيجي محبوك ومعقد لم يعتد على مثله العرب من قبل، حيث لم تكن غالبية المعارك العربية بين القبائل كافية لإعطائهم الخبرة اللازمة لمثل هذه المعارك الكبيرة، وهي معركة ضمن سلسلة المعارك ضد الفرس، ولكنها اشتهرت بكونها الفاصلة.
بدأ رستم بتوزيع الجيش والقيادات، فوضع الهرمزان على الميمنة، والجالينوس على الميسرة، ووضع بهمن في الوسط، وكان تقسيم جيش المسلمين مشابهاً، حيث كان زهرة ابن حوية في المقدمة، وعاصم ابن عمرو في الوسط، وعبد الله ابن المعتم في الميمنة، وشرحبيل بن السمط في الميسرة، وكان الفارق بين الجيشين هو في العدد، وقد وزع المسلمين جيشهم بشكل طولي لقلة عددهم، أما الفرس فكان جيشهم عميقاُ، ولم يتمكن سعد من المشاركة بنفسه بسبب المرض.
كان كل من عمر بن الخطاب ويزدجرد في غاية الاهتمام والتشوق لمعرفة أخبار المعركة، فكان عمر يتفقد الركبان والرسل بحثاً عن أي طرف خيط، بينما كان يزدجرد قادراً على معركة اﻷخبار فوراً عبر شبكة بريد خاصة. وبدأت الصفوف بالالتحام، وكانت المعركة في أربعة أيام في 15 هـ 636 م، على هذا النحو:
– اليوم اﻷول (أرماث): وكان يوم الخميس، حيث خطب سعد في المسلمين وقرأ عليهم اﻵية: “ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن اﻷرض يرثها عبادي الصالحون” [اﻷنبياء:105]، فاثار حماستهم، وبدأت المعركة بعد صلاة الظهر بتكبيرة من سعد هزت أرض المعركة. ونزل غالب بن عبد الله يطلب النزال فخرج له هرمز فلما أحس بالهزيمة استسلم فتم أسره وأخذه إلى سعد. ثم خرج فرسان كثيرون يطلبون المبارزة، ثم بدأ الهجوم الفارسي بالسهام على قبلية بجيلة في الميمنة وانطلقت تجاههم الفيلة مما جعلهم في وضع صعب. وهنا أرسل سعد للأشعث بن قيس لمؤازرتهم بميمنة القلب وكذلك إلى قبيلة بني أسد، واستمر القتال على أشده بين مختلف الأجنحة في الجيشين. ولجأ المسلمين إلى حيلةٍ بقطع توابيت الفيلة مع رمي قائدها بالسهام، وذلك إلى ما بعد غروب الشمس.
– اليوم الثاني (أغواث): بدأ المسلمين بدفن الشهداء، وجاءت رسالة من أبي عبيدة عامر بن الجراح أنه أرسل مدداً من الشام من ستة آلاف مقال وفيهم القعقاع بن عمرو التميمي، مما رفع معنويات المسلمين. فقام القعقاع بإجراء مناورة لرفع معنويات المسلمين أكثر وإخافة الفرس، فقسم جيشه إلى فرق، وكل فرقة من مئة مقاتل تدخل المعركة وهي تكبر، فيظن الفرس أن كل فرقة هي مدد جديد. وتقدم القعقاع للمبارزة وقتل ثلاثين من الفرس بما فيهم بهمن، ولم تظهر الفيلة في هذا اليوم بسبب العمل على إصلاحها.
– اليوم الثالث (عَماس): في هذا اليوم أعاد القعقاع مرة أخرى نفس الحيلة فأخرج رجاله ليلاً وأعادهم في النهار مكبرين كأنهم أمداد متتابعة، ولكن رجعت الفيلة في هذا اليوم، مما اضطر سعد ليتواصل مع بعض مسلمي الفرس، وعرف منهم أن مقتل الفيلة في عيونهم وأطراف خراطيمهم، فتم ضرب عيون الفيلين القائدين الأجرب واﻷبيض، ولحقته كافة الفيلة وهم يدوسون على الجيش الفارسي وسقطوا في النهر، كما استخدم المسلمين حيلة معاكسة، حيث ألبسوا الجمال ثياباً مبرقعة، مما أخافت خيل جيش الفرس، واستمر القتال شديداً حتى بعد الليل، حتى سُميت ليلة الهرير.
– اليوم الرابع (يوم القادسية): وكان هذا آخر يوم حيث أحس المسلمون بقرب النصر، إلا أن ثبات وعناد الفرس جعل أمد المعركة يطول، مما اضطر القعقاع لوضع حيلة ينهي بها المعركة. فأخذ قبيلته تميم ومعهم نجباء المسلمين، وحملوا حملة واحدة على قلب الجيش الفارسي حتى اخترقوه، وهبت رياح شديدة قلعت خيمة رستم، فاستغل المسلمون ذلك وقتلوه، وبدأ الجيش الفارسي بالتراجع والانهيار، وأمر الجالينوس من بقي بالانسحاب، وتبعه المسلمون بعد النهر حتى قتلوه.
أما أهم نتائج معركة القادسية أنها كانت البوابة الرئيسة لفتح العراق وما بعده من بلاد فارس، ونهايةً للامبراطورية الساسانية بشكل نهائي، وذلك بخلاف الامبراطورية البيزنطية، التي بقيت لعدة قرون في اﻷناضول رغم خسارتها للشام.
المراجع:
– معركة القادسية معركة اليرموك معركة هليوبوليس تطورات فنون الحرب الإسلامية. ص 9 – 45.
– سعد بن ابى وقاص و ابطال القادسية. تأليف: عبد الحميد جوده السحار. ص 117 – 152.
– تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية. تأليف: محمد سهيل طقوش. ص 131 – 133، 180 – 202.