معمار سنان: أب العمارة العثمانية

معمار سنان: أب العمارة العثمانية

نشأته

هو خوجة معمار سنان آغا أبصر النور بآغيرناص، وهي قرية تابعة لولاية قيصرية في الأناضول، وتختلف المصادر التاريخية في تحديد تاريخ ميلاده، فقد ذكرت بعضها أنه ولد سنة 1489م، أما فئة أخرى فقد رشحت ميلاده إلى عام 1490م. يعتقد بأنه من أصل أرميني أو يوناني، وبأنه كان مسيحيا أرثوذوكسيا مثل والديه، ثم اعتنق الإسلام عندما بلغ من العمر حوالي 23 سنة. ولقد شهد على حكم أربعة سلاطين عثمانيين، هم: سليم الأوّل وسليمان الأوّل وسليم الثّاني ومراد الثّالث. يقال بأنه تزوج من فاطمة نور ابنة السلطان سليمان القانوني من جاريته فولانة خاتون.

يُعتبر أحد أمهر المعماريّين العثمانيّين والعالميّين، حتّى أنّ العالم الألماني وأستاذ تاريخ العمارة في جامعة فيّينا بإيطاليا، البروفيسور كلوك قال عنه: “إن سنان يتفوق فنيا على مايكل أنجلو صاحب أكبر اسم فني في الحضارة الأوروبية”. كما ذكر المستشرق الروسي فاسيلي بارتولد في كتابه الحضارة الإسلامية بأن أعمال المعماري سنان لم تكن أقل قيمة من الأعمال المعمارية الأوروبية خلال عصر النهضة.

منذ صباه، كان سنان مغرمًا ببناء الأكواخ الصغيرة، وشق القنوات المائية بالحدائق والحظائر. اِنتقل إلى العاصمة ودرس في إحدى المدارس الإبتدائية هناك، فتعلم القراءة والكتابة والفنون التطبيقية، ثم تابع دراسته في مدرسة الأوجاق للمعماريين.

حياته العسكرية

أمضى شبابه في مساعدة والده الذي كان يعمل في مجال البناء، الأمر الذي مكَّنه من اِكتساب المعارف الأساسية في أعمال البناء منذ سن يافع.

وبسبب نظام الدوشيرمة (مجموعة أطفال تتراوح أعمارهم بين ثمانية إلى ثمانية عشر عاما، ينتمون لأديان مختلفة، يتمّ تحويلهم للديانة الإسلاميّة، عبر تدريسهم العلوم الدينية والدنيوية المتطورة آنذاك، من أجل تربية جيل متعلم ومخلص للدولة العثمانية) تمّ تجنيده في جيش الإنكشارية (قوّات مشاة وفرسان من النّخبة بالجيش العثماني) أثناء الفترة التي كان يستعد فيها سليم الأوّل لشنّ حملته العسكرية الشهيرة ضد قوات الدولة الصفوية بقيادة الشّاه إسماعيل الأوّل.

قام بخوض كل من معركة الريدانية ومرج دابق، والتي تمّ على إثرهما فتح بلاد الشام ومصر، وبسبب مهاراته العسكرية العالية، تمّ تعيينه قائدًا لوحدةٍ قتالية أثناء فتح بلغراد عام 1521م، بقيادة السّلطان سليمان القانوني.

شارك سنان في العديد من الحملات العسكرية العثمانية بما في ذلك غزو بلغراد (1521م) ومعركة موهاكس (1526م) والنمسا (1532م) وحملة بغداد. استمرت فترة خدمة سنان مع الجيش الإنكشاري لمدة سبعة عشر سنة.

أثناء الحملة العسكرية التي شنّها السلطان سليمان القانوني ضد الدولة الصفوية سنة 1533م، نجح سنان بتصميم ثلاثة جسور تمر فوق بحيرة “فان”، لكي يستطيع الجنود العثمانيون من عبور البحيرة بأمان.

خلال بعثاته إلى كل من كورفو، وبوليا، ومولدافيا عام 1537م، استطاع سنان اثبات موهبته وقيمته كمهندس معماري، وبالتالي تمت ترقيته إلى كبير المهندسين بعد فتح القاهرة، بناءً على طلبات وأوامر السلطان، كما حصل على امتياز هدم المنشآت التي لا تلتزم بخطة المدينة في القاهرة.

لعبت حياته العسكرية دورًا هامًا في بناء وصقل شخصيته الفنية، حيث أتاحت له مشاركته في الغزوات الأجنبية في العديد البلدان الإطلاع على مختلف الفنون المعمارية الخاصة بالشعوب الأخرى، كالسلاجقة والبيزنطيين، وبالتالي كانت مصدر إلهام له.

فقد سمحت له مشاركته في معركة جالديران ضد الصفويين عام 1514م، ودخوله إلى مدينة تبريز رفقة الجيش العثماني من التعرف على الفن المعماري الإيراني، واِطلع على أسلوب العمارة القائمة في الأقطار العربية عندما دخل الشام. كما أُتيحت له الفرصة للإطلاع على فنون وآثار الحضارة الفرعونية والمملوكية عندما دخل مع السلطان سليم الأوّل وجيشه مصر سنة 1517م.

عندما تولى السلطان سليمان القانوني مقاليد الحكم بعد وفاة والده سليم الأوّل، شكّل ذلك تغييرًا محوريًا في مشوار سنان الفني، ففي عهد سليمان القانوني سيطرت الدولة العثمانية على أجزاء كبيرة من أوروبا. وكان سنان مرافقا للجنود العثمانيين في حملاتهم الأوروبية هذه.

سمح له ذلك بالإطلاع على الآثار الفنية للمجر عند دخول الجيش العثماني ل”بودابست”، والتعرف على الفن المعماري اليوناني عندما دخلوا مدينة رودس. إلى جانب استكشاف الطراز المعماري الإيطالي عندما رافق البحار الشهير “خير الدين بربروس” الذي شنّ هجومه على السواحل الإيطالية للقضاء على البحار الأوروبي الشهير “أندريه دوريا”. بالإضافة لتعرفه على فن العمارة العراقية عندما شارك السلطان سليمان القانوني في حملته على بغداد.

كان سنان مسؤولًا عن تحويل الكنائس في الأراضي التي تم الاستيلاء عليها إلى مساجد.

تقلده لمنصب كبير المعماريين

بدأت شهرة سنان تجوب الآفاق، بعد قيامه بتشييد جسر على نهر “بروت” بأوكرانيا، خلال الحملة العسكرية على “قارا بوغدان”، وذلك في ظرف 13 يوما فقط، الأمر الّذي أبهر السلطان سليمان، فتلقّى سنان على صنيعته خير الثّناء وجزيل الشكر.

وبعد وفاة كبير المعماريين العثمانيين “عجم علي”، تمّ ترشيح سنان سنة 1539م لكي يتقلّد المنصب، من قبل الصدر الأعظم لطفي باشا. تمّ توكيله بعد ذلك كل أعمال البناء بالدولة، وأصبح مسؤولًا عن إمداد مواطني إسطنبول بالمياه، بناءً على أوامر السلطان سليمان. 

وبفضل مهاراته الهندسية العالية، تمكن سنان من بناء عين ماء في كل حي من أحياء المدينة، مُوفرًا بذلك أموالًا كبيرة كانت ستُهدر كأجرةٍ لحاملي المياه.

أعماله وإنجازاته

خلال مسيرته الطويلة،  بنى سنان مئات المباني قدرت بحوالي 476 بناء، بما في ذلك المساجد والقصور والمصليات والمقابر والمدارس ومخازن الحبوب والنوافير والقنوات المائية والمستشفيات.

من بين هذه المجموعة المتنوعة من الأعمال، كانت مساجده هي الأكثر شهرة وتأثيراً. ففي تصميم المساجد, قام سنان بتجربته المبتكرة حول المساحات ذات القبة المركزية, حيث أنتج آثارًا بدت فيها القبة المركزية عديمة الوزن وكانت الأسطح الداخلية مغمورة بالضوء. غالبًا ما كان يصمم مساجده كجزء من مجمع يضم المدارس والحمامات ودور الضيافة والمستشفيات.

جامع السليمية 

تمت الإنتهاء من عملية بنائه  سنة 1575م، بتكليف من السلطان سليم الثاني. يقع في مدينة أدرنة بتركيا على قمة تل عالية، الأمر الذي يسمح لزوار مدينة أدرنة بمشاهدة هذه التحفة الخلابة من كافة أنحاء المدينة. استغرق بناؤه مدة ستة سنوات، وكان سنان يبلغ من العمر حينها حوالي أربعة وثمانين سنة، مما يعني أنه قد وضع جل المعرفة والخبرة التي اكتسبها طوال مشواره الفني في تصميم تحفته هذه التي تسر الناظرين.

تمّت تغطية الجامع بقبّة واحدة عملاقة، قطرها حوالي 31,5 مترا، ترتكز على قاعدة مُثمنة تحملها ثمانية دعامات. أمّا مآذنه التي تعانق السماء فعددها أربع، تتميز برشاقة مدهشة، اِرتفاع كل واحدة منهم يقدر ب 85 مترا، وتُعتبر ثاني أعلى مآذن العالم ارتفاعًا آنذاك بعد مأذنة “قطب منار” في نيودلهي بالهند.

يعكس جامع السليمية براعة سنان ومهارته الفائقة في تصميم أروع المباني. فتصميمه الهندسي هذا تفوق على كنيسة آيا صوفيا بشهادة من أساطين المعماريين. وفي عام 2011، تمّ إدراج جامع السليمية ضمن قائمة التراث الثقافي الخاصة بمنظّمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم والفنون (اليونيسكو).

جامع السليمانية

يعد جامع السليمانية أحد أشهر الوجهات السياحية في تركيا، ومن أكبر جوامعها. يحمل اسم السلطان سليمان القانوني الذي أمر ببنائه. شرع في بنائه عام 1550م، وتم إنهاؤه عام 1557م. دفن فيه محمد سليم أفندي. ذكر سنان أن هذا المسجد هو أعظم إنجازاته، إذ أنه تحصل على لقب “قوجة” بمعنى “عظيم” بسبب نجاحه في بناء مسجد السليمانية الذي يعتبر أحد روائعه الفنية.

يتربع جامع السليمانية على أحد تلال إسطنبول السبعة، المطلة على الخليج الذهبي، في قلب مجمع السليمانية. يقدر ارتفاع قبته الرئيسية بثلاثة وخمسين مترًا، وقطرها 27.5 مترًا، مرتكزة على أربعة أعمدة عملاق  تسمى ب”أقدام الفيل”، نظرا لضخامتها وسمكها، تزن كل واحدة منها ستون طنًا.

كما يحتوي على أربعة مآذن، دلالة على ترتيب سليمان القانوني كرابع سلاطين الدولة العثمانية بعد فتح القسطنطينية.  وتحتوي المآذن على 10  شُرف، والتي تدل على رتبة السلطان سليمان كعاشر سلاطين الدولة.

تم تشييده تبعا لنظام المجمعات المعمارية، فتمت إحاطته بمجموعة من  المنشآت والملحقات. يتكون المجمع الذي يُحيط به من أربعة مدارس ومكتبة (مكتبة السليمانية) وحمام ومطعم  ومستشفى وفندق ومحلّات تجاريّة، بالإضافة إلى ضريح مصممه المهندس معمار سنان.

جامع ومدرسة الخسروية في حلب

تفتقت قريحته الإبداعية في تصميم أول أعماله المعمارية بين عامي (1544-1547م)، بناء على طلب والي حلب “خسرو بن سنان باشا”. تُعتبر أوّل مدرسة تمّ بناؤها في مدينة حلب. تمتاز بمحراب جميل مزين بالرخام، و زاوية تعرف بزاوية الشيخ تراب. درست بها أسماء كبيرة، أمثال: الدكتور مصطفى الزرقا والشيخ إبراهيم السلقيني والشيخ محمد نجيب خياطة.

جامع كراي خان

يسمى كذلك ب”جامع الجمعة”، يتواجد بمدينة إيفباتورية في شبه جزيرة القرم. يقال أنّه تمّ بناؤه بين عامي (1552-1564م)، بناءً على طلب الخان المغولي خان دولت الأول كراي.يتكون من 14 قبة، وكان مركزًا لإدارة شؤون الإقليم. كما يُعتبر أحد روائع الفن المعماري الإسلامي المتبقية في جزيرة القرم، وأضخم مساجدها، حيث بلغت مساحته 518 متر مربع. دُفن فيه مجموعة من الضباط المصريين الذين أُزهقت أرواحهم أثناء حرب القرم، بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية.

جامع وكلية الشاهزاده محمد 

Şehzade cami (1).jpg

تم بنائهما بناء على أوامر السلطان سليمان القانوني تخليدا لذكرى نجله الشاهزاده محمد الذي توفي عن عمر يناهز 22 سنة. أما جامع الشاهزاده، فيقع بمدينة إسطنبول بتركيا. يُعتبر أول عمل لسنان في مدينة إسطنبول. استغرق بناؤه مدة أربعة سنوات وتم إنهاؤه سنة 1548م. يعتبر متواضعا نسبيا، إذ أن قطر قبته لا يزيد عن 19 مترا. اتبع تخطيط مسجد الشاهزاده في عدة مساجد كبرى، مثل مسجد السلطان أحمد ومسجد الفاتح الثاني

بالنسبة لكلية الشاهزاده فهي تقع في شارع “شاهزاده باشي”، وتتكون من خمسة أقسام: جامع الشاهزاده والمطبعة وضريح الشاهزاده وضريح “رستم باشا” والمدرسة.

جامعي مهرماه سلطان

هما مسجدين أنشأتهما مهرماه سلطان ابنة السلطان سليمان القانوني وزوجة الصدر الأعظم رستم باشا. أحدهما يتواجد ببلدية أسكدار بإسطنبول، تركيا، تم تشييده بين عامي (1546-1548م)، ويأخذ اسمه من رصيف العبارات البحري القريب له (أسكدار). يضم خمسة قباب، ومأذنتين. لم تدفن به مهرماه سلطان، لكن أخ زوجها رستم، القبطان سنان باشا دفن به عندما توفي سنة 1553م.

أما الجامع الثاني فيتواجد بإديرنا كابي (1562-1565م).

بالإضافة إلى ذلك، قام سنان بترميم قباب الحرم المكي وشيّد مطعما خيريا يسمى “خاصكي سلطان”، وبنى فيها مدرسة وحماما باسم السلطان سليمان، ودارا للقراء.

أنشأ العديد من المطاعم والمساجد والتكايا والمدارس في مختلف المدن العربية مثل حلب والقدس ودمشق والبصرة.

أنشأ ضريح القائد البحري الشهير “خير الدين بربروس” عام 1541م، والذي يتواجد في “بشيكطاش”.

وفاته

بعد حياةٍ حافلةٍ بالفن والجمال اِنتقل سنان إلى الرفيق الأعلى سنة 1588م، بإسطنبول، عن عمر يناهز 98 سنة. تمَّ دفنه بجانب جامع السليمانيّة الّذي قام بتشييده بنفسه، ولقد صمم سنان قبره خلال حياته. كما تم دفن زوجته بالقرب منه.

ترك وراءه إرثًا عظيمًا من النماذج المعماريّة والهندسيّة الخلّابة، التي تشكل مرجعا هاما للمعماريين يمكنهم الاِستناد إليها مستقبلًا، فقلّما كان بالإِمكان قطع شوط أبعد من الشوط الّذي قطعه المعماري العبقري، معمار سنان.

تم تغيير اسم أكاديمية الفنون المتواجدة في إسطنبول إلى جامعة معمار سنان للفنون الجميلة، سنة 1982م، في الذكرى المئوية لتأسيسها، تكريما له واعترافا بإنجازاته.

مصادر

-“تاريخ الدولة العثمانية”، روبير مانتران.

-“عمارة المساجد العثمانية”، لمحمود زين العابدين (2006).

-“دراسات في العمارة العثمانية: الجزء الأول”، لعبدالله عبد الحافظ.

-“Sinan: A great Ottoman architect and Urban designer”, by Dr.Rabah Saoud (2007).

-“… We are all servants here!” Mimar Sinan, architect of the Ottoman empire. By Péter Rabb.