فيما عدا الغزوات النبوية وفتوحات الصحابة الأوائل رضوان الله عليهم، لم تحظ أي معركة كبرى في التاريخ اﻹسلامي بأهمية وشهرة معركة حطين، فبالرغم من تواصل الحملات الصليبية الكبرى من بعدها، وتمكن الصليبيين من استعادة القدس بعد عقود قليلة لبعض الوقت من جديد، فقد كان لهذه المعركة أثر نفسي هائل في ثقة المسلمين بإمكان تحرير جميع ما احتله الصليبيين مهما طال الزمن.
ورغم مضي مئة عام أخرى على معركة حطين حتى تم إجلاء آخر أثر للصليبيين، فقد كانت إنجازاً هائلاً بالنظر لمخططات الصليبيين العظيمة وعدد حملاتهم التي تصل إلى ما يقرب العشرة على مدى قرنين من الزمان. ولا يماثل هذه المعركة في أهميتها وشهرتها إلا معركة عين جالوت الفاصلة ضد الغزو التتري المغولي. ومن أسباب أهمية معركة حطين الكبيرة هي أنها تعطي اﻷمل المؤكد بحتمية تحرير بيت المقدس من جديد من الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، فهي أكثر حادثة تاريخية تؤرق قادته.
الغزو الصليبي لبيت المقدس
ليس من السهل تلخيص كيف بدأت القصة، إلا أن أهم سبب لمعركة حطين هو احتلال الصليبيين لبيت المقدس وساحل الشام منذ حوالي تسعين عاماً، فهي معركة مع اﻷوربيين ولكن وقعت في بلاد المسلمين ولم تحدث في قلب أوروبا مثلاً كجزء من الفتوحات. إلا أنه كيف حصل وأن تم احتلال قلب بلاد المسلمين وهم أصحاب أكبر الفتوحات في شرق العالم وغربه؟ وهم لديهم أكبر امبراطورية في العالم آنذاك، من الدولة الراشدية إلى الأموية إلى العباسية؟ كيف تمكن الصليبيون من احتلال بيت المقدس حقاً؟
لم يحدث اﻷمر فجأة، ولكن على مدى أكثر من قرن من الانحدار والضعف في الدول والحضارة الإسلامية، والبعد عن الالتزام بتعاليم وأخلاق وعقيدة الدين اﻹسلامي، ومن أهم هذه اﻷسباب ما يلي:
– ضعف الدولة العباسية واستقلال الدول الإسلامية البعيدة عنها، فحين تم احتلال بيت المقدس لم يتمكن الخليفة العباسي من أن يحرك ساكناً، فقد اقتصرت ولايته على بغداد وما حولها.
– رغبة اﻷوروبيين بالثأر من الفتوحات الإسلامية، فهم يعتقدون أن القدس هي بلد المسيح عليه السلام، ومن حقهم أن يحكموها ويعيشوا فيها، وكان البابا الكاثوليكي هو الذي يطلق الحملات الصليبية.
– الوضع الاقتصادي الصعب في أوروبا وزيادة عدد السكان وانتشار الفقر والبطالة، فالبرغم من الشعارات الدينية، فقد جاء كثير من الصليبيين لأغراض مادية أكثر من الهدف الديني المزعوم.
– سيطرة الدولة الفاطمية على معظم دول العالم اﻹسلامي عدا العراق وبلاد المشرق، وكان لهذا أثر كبير في بعد الناس عن دينهم بسبب محاولتها فرض نشر عقائد التشيع المتطرفة.
– استغاثة دولة القسطنطينية بالدول الغربية بعد أن وصلت دولة السلاجقة المسلمة إلى تخوم الأناضول عقب معركة ملاذ كرد.
– انقسام دولة السلاجقة وانتشار الصراعات بين أقسامها ومع الدولة الفاطمية التي كان مركزها مصر، وتخطيط الفاطميين للتحالف مع الصليبيين ضد العباسيين والسلاجقة.
– ابتعاد المسلمين عن دينهم بشكل كبير، وانتشار المعاصي والكبائر، حتى إن كبار العلماء المصلحين لم يكونوا قادرين على الدعوة للجهاد لدفع الصليبيين، وإنما بدأوا بالدعوة للعودة للإسلام.
اﻷوضاع السياسية والاجتماعية
بدأت حركة التحرير ليس فقط كما هو شائع من دولة آل زنكي متمثلة بالقائدين عماد الدين ونور الدين زنكي، ولكن بحركة العلماء والمصلحين من أمثال الشيخ أبو حامد الغزالي الملقب بشيخ الإسلام، وكذلك الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان أيضاً للوزير السلجوقي نظام الملك دور كبير في بناء المدارس اﻹسلامية التي تخرج فيها كبار القادة والجنود الذين تم على أيديهم النصر بعد توفيق الله تعالى، مما يدل على أهمية العلماء والجماهير في النهوض وعدم اقتصار نجاح التغيير على القادة فقط كما يروي التاريخ التقليدي.
وكما هو معلوم فقد آلت أمور الدولة الزنكية آخر الأمر إلى صلاح الدين اﻷيوبي، وقد حققت بعض الانتصارات المتعددة مثل تحرير إمارة الرها وصد الحملة الصليبية الثانية على دمشق، وتمكنت الدولة من توحيد الشام في دولة واحدة ونشرت العدل والصلاح بين الرعية، ثم قرر صلاح الدين بدوره القضاء على الخلافة الفاطمية في مصر، التي كانت ضعيفة إلا أنها لو تحالفت مع الصليبيين فسوف تمنع تحقيق انتصار شامل على الصليبيين، وقد كان صلاح الدين قد تعلم في صغره على أيدي كبار العلماء مثل النيسابوري وغيره، ومن أخلاقه استمدت أوروبا أخلاق الفرسان التي للأسف قد فقدناها نحن المسلمين مؤخراً.
ويذكر المؤرخ أ. د. نظير حسان سعداوي (1914-1968) أهمية حادثة معركة تل الجزر في نفس صلاح الدين، حيث هزمه الصليبيين مرة هزيمة منكرة في منطقة الرملة التي كانت بواكير معاركه مع الصليبيين سنة 573 هـ، 1077 وأوشك فيها على الهلاك، ولم ينج منها إلا بعناية إلهية خاصة جعلته يعتقد أن الله لم يُنجه منها إلا لحكمة ما، فقرر وضع الخطط وبناء القلاع خاصة في سيناء وعدم الاستعجال في محاربة الصليبيين قبل التجهيز الكامل، ثم كانت معركة حطين بعد ذلك بإحدى عشر عاماً.
كان لصلاح الدين الأيوبي أيضاً وزير ومستشار يعتبره من أهم أسباب نجاحه في توحيد واستمرار دولته، وهو الوزير القاضي الفاضل، وكانت عقيدته في القتال بروح الانتماء للإسلام، بعكس الطمع الدينوي الأوروبي المغلف بستار ديني، كما وقد شارك بعض النصارى العرب مع صلاح الدين نتيجة عنصرية الصليبيين الأوروبيين ضدهم مقابل تسامح المسلمين معهم، بل حتى قد فرح امبراطور القسطنطينية بفتح بيت المقدس وأرسل التهنئة للمسلمين بسبب صدقهم في المعاهدات مقابل تذبذب الصليبيين من أهل دينه في ذلك.
أسباب ومقدمات معركة حطين
بعد وفاة ملك بيت المقدس بلدوين الخامس، خلفه جاي لوزينيان على الحكم مما أثار حنق ريموند أمير طرابلس، كما استمر أرناط حاكم الكرك الصليبي في سلب ونهب القوافل التجارية مع استفزاز مشاعر المسلمين، وكان السبب المباشر للمعركة هي هجوم أرناط على قافلة للحجاج المسلمين وسلب أموالهم وقتلهم، مما أغضب صلاح الدين، حتى خشي جاي لوزينيان نفسه من نتائج ذلك وطالبه بإعادة ما نهبه فلم يستجب.
فقرر صلاح الدين استغلال الظروف وفرقة الصليبيين للقيام بمعركة فاصلة، وبدأ بالتخطيط والتعبئة على أعلى المستويات، وخرج بالجيش من مصر وجمع مزيداً من الجنود من الشام، ولكن ريموند عاد للتحالف مع جاي لوزينيان بعد هزيمة عابرة للصليبيين في موقعة صفورية أثناء زحف جيوش صلاح الدين. وكان صلاح الدين يخطط لاختيار مكان المعركة المناسب جغرافياً لمحاصرة الصليبيين، فهاجم طبرية مما اضطرهم للزحف باتجاه جيوش صلاح الدين، وقد خشي جاي لوزينيان من هذا الاستدراج، لكن أرناط أقنعه باستمرار الزحف رغم قلة الماء وحرارة الجو، فوقعوا في الفخ المنصوب.
وكان صلاح الدين قد سبقهم واستولى مع جيشه البالغ 12 ألف فارس و13 ألفا من المشاة على أماكن المياه والظل وتركوا بحيرة طبرية العذبة وراءهم، ومنعوا وصول جيوش الصليبيين إليها مما زاد من ضعفهم وإنهاكهم، وأكمل المسلمين الخطة بإشعال الأعشاب الجافة التي كانت على الهضبة التي حط فيها الصليبيون رحالهم وهي تشرف على سهل حطين، مما زاد من معاناتهم أكثر، وفي الليل تمكن جيش صلاح الدين من تطويق الجيش الصليبي بالكامل.
أحداث معركة حطين
بدأت معركة حطين في 25 ربيع الثاني 583 هـ الموافق 4 تموز 1187 م بإطلاق المسلمين السهام تجاه الصليبيين، وهرب ريموند بجيشه، وفتح لهم المسلمين طريقاً، ثم بدأ القتال الحقيقي، ورغم تراجع معنويات الصليبيين بسبب هروب ريموند فقد استشرسوا بالقتال وكادوا يكسبون المعركة لتفوق أعدادهم، ثم تراجع الصليبيون أعلى الجبل، وقُتل أسقف عكا، وتمكن المسلمون من أخذ صليب الصلبوت الذي أحضره الصليبيون معهم، والذي يعتقدون أنه صليب تاريخي فيه قطعة من الصليب الذي صُلب عليه المسيح عليه السلام، ثم تم أسر ملك القدس مع مئة وخمسين من رجاله في قمة الجبل، كما تم أسر أرناط المجرم حاكم قلعة الكرك. وقد وصف ابن اﻷثير خسائر الصليبيين في معركة حطين بقوله:”وكثر القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً، و من يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلو احداً”.
تم سوق كبار الأسرى من قادة وملوك الصليبيين إلى خيمة صلاح الدين، فكان استقباله لهم حسناً كما هو معهود عنه، ما عدا الخائن الغدار أرناط، وقدم لهم الماء المثلج، فأعطى جاي لوزينيان ما بقي في كأسه لأرناط فغضب صلاح الدين، وقال بأن هذا لا يعطي أرناط اﻷمان، وقام إليه وعنّفه على جرائمه ونكثه العهود، وقتله بضربة سيف، فخشي ملك القدس أن يكون مصيره مثله فطمأنه صلاح الدين.
نتائج معركة حطين
تعد هذه المعركة نقطة فاصلة في التاريخ العالمي وكارثة كبرى حلت بالصليبيين، حيث لم يبق في القدس جيش كبير لهم سوى حامية صغيرة لم تصمد أمام الحصار سوى عدة أيام، وبدأ صلاح الدين أولاً بفتح الإمارات الصليبية في عكا والساحل الواحدة تلو الأخرى بهدف منع الإمدادات الصليبية من أوروبا إلى بيت المقدس. وسمح صلاح الدين بخروج الصليبيين من القدس، وأعطاهم مهلة أربعين يوماً ويدفعون فدية من الذهب، أما فقراء الصليبيين فتسامح معهم. وتم خلع الصليب من أعلى قبة المسجد، وتم تطهير المسجد اﻷقصى ومسجد قبة الصخرة بماء الورد، ثم صلوا صلاة الجمعة التالية في المسجد اﻷقصى بإمامة الخطيب محيي الدين الزكي قاضي دمشق.
بقي للصليبيين في ميناء صور بسبب حصانته الطبيعية حيث تجمعوا فيه، ثم جاءت الحملة الصليبية الثالثة بقيادة قلب الأسد ملك إنكلترا، وهي حملة شديد الوطأة وقاسية كادت أن تفسد فرحة النصر وتسترد القدس مرة أخرى للصليبيين، وكانت هذه الحملة من نتائج انتصار المسلمين في معركة حطين. فبدأت بحصار عكا من قبل فلول الصليبيين في صور مع اﻹمدادات والحملات العسكرية القادمة من أوروبا، فأخذوا عكا من جديد وعادوا إلى ممارسة مجازرهم البشعة بالمسلمين رغم تسامح صلاح الدين معهم، واستمرت المعارك بين صلاح الدين وقلب اﻷسد بين كر وفر حتى هُزم المسلمين في معركة أرسوف هزيمة شديدة اعتبرها الصليبيون ثأراً لمعركة حطين.
وقد حاول الصليبيون أكثر من مرة استعادة القدس واقتربوا منها كثيراً لكنهم لم يفلحوا، كما عجز صلاح الدين من جهته عن القضاء تماماً عليهم، وانتهى اﻷمر بتصالح الطرفين في صلح الرملة سنة 588 هـ الموافق 1192 م، والذي سمح للصليبيين بالاستقرار في الساحل وزيارة بيت المقدس، وقفل قلب اﻷسد راجعاً إلى إنكلترا. وبعد ذلك بعقود في فترة حكم أبناء وأحفاد صلاح الدين تمكن الصليبيون من استعادة بيت المقدس عدا المسجد اﻷقصى سنة 626 هـ 1229 م للأسف باتفاقية يافا، ثم حررها الخوارزميون نهائياً بتحالف مع الملك الصالح أيوب سنة 642هـ، 1244 م.
المراجع:
– حطين بقيادة صلاح الدين، د. شوقي أبو خليل. ص 8-49، 77-94.
– صلاح الدين بطل حطين ومحرر القدس من الصليبيين. د. عبد الله ناصح علوان. ص 57-62.
– أ. د. نظير حسان سعداوى (١٩٦٨-١٩١٤) مؤرخاً للحروب الصليبية، تأليف أ. د. محمد مؤنس عوض. ص 8.