يُعد ابن خلدون من أكبر وأشهر العلماء والمؤرخين في الحضارة الإسلامية، حيث وصلت شهرته ونظرياته إلى مستوى العالمية، فهو يُعتبر أول مؤسسٍ لعلم الاجتماع وأحد أكبر أصحاب النظريات في فلسفة التاريخ وعلوم السياسة والعلاقات الدولية. كانت حياة ابن خلدون حافلة بالعلم النظري والتطبيقي، فقد درس وقرأ العلم الشرعي والتاريخ، كما عاش الأحداث التاريخية والسياسية بنفسه في صلب دوائر صنع القرار في عصره.
كان لترحال ابن خلدون والمناصب التي تقلدها أكبر الدور في تشكيل خبراته ونظرياته، حيث طاف بكثير من البلاد اﻹسلامية من أقصى الأندلس إلى الشام، ولكن هذا لا يكفي ليكون المرء عالماً، فهناك الكثير من الخبراء الذين لديهم نظريات ولكنها تموت بموتهم، إلا أن ابن خلدون – باﻹضافة لشخصيته الاجتماعية – كان قادراً على عيش مدة كافيى من العزلة والتأمل لتكوين هذه النظريات وفحصها بدقة، ومن ثم تدوينها ومراجعتها وتصحيحها. فمن هو ابن خلدون وما هي أهم نتاجاته الفكرية والعلمية؟
نشأة ابن خلدون وتعليمه
كانت ولادة ونشأة ابن خلدون في بداية مرحلة أفول شمس الحضارة الإسلامية سنة 732 هـ الموافق 1332 م، ومن عجائب القدر أنه كان شاهداً على ذلك وسجله بنفسه، وقد لاحظ أن الغالبية من حوله لم تكن مدركة لذلك، ولا تزال الحضارة اﻹسلامية حتى هذا اليوم متعثرة عن العودة إلى مستوى ما كانت عليه في وقته، ولذلك لم يقم أحد من علماء المسلمين من بعده بإكمال تأسيس علم الاجتماع الذي بدأه، في حين كان مؤسسي علماء الاجتماع الغربيين من أوغست كونت إلى دوركهايم أوفر حظاً بالتوصل إلى هذا العلم في بداية نهضة حضارتهم، مما كان له أثرٌ أيضاً في استفادة الحضارة الغربية من هذا العلم تطبيقياً بهدف محاولة إطالة أمد بقائها قدر الإمكان، وذلك حسب نظرية الدورة الحضارية التي وضعها ابن خلدون كما سيأتي لاحقاً.
اسمه هو عبد الرحمن ابن محمد ابن خلدون الحضرمي، كانت ولادته في تونس، ويُقال أن نسبه يصل إلى الصحابي وائل بن حجر رضي الله عنه، وكان أجداده يعيشون في اﻷندلس، ولكن جده اﻷقرب انتقل للعيش في مدينة تونس وعمل في مناصب الدولة، وكان أبوه من أصحاب مجالس العلم واﻷدب، فنشأ ابن خلدون نشأة علمية وأدبية في بيئة سياسية بامتياز، فكان لهذا أثره الكبير في إنتاجه العلمي الموسوعي المتنوع بين علوم إنسانية ولغويات وتاريخ واقتصاد. حفظ القرآن في صغره وتعلم في جامعة الزيتونة، وتتلمذ على أيدي كبار العلماء والقضاة مثل الفقيه الزيتوني الإمام ابن عرفة وقاضي القضاة محمد ابن عبد السلام.
مناصب ابن خلدون وترحاله
تنقل ابن خلدون كثيراً بين الأقاليم اﻹسلامية والمناصب، وشهد الكثير من الخبرات والصراعات، ووقف بنفسه على مختلف الأحوال والظواهر الاجتماعية والسياسية والتاريخية، ومن أبرز هذه اﻷقاليم ما يلي:
ابن خلدون في المغرب العربي
بدأ حياته العملية ككاتبٍ في في تونس مع حاكمها “محمد ابن تافراكين” سنة 752 هـ، ثم بدأ بالترحال فذهب أولاً إلى مدينة بسكرة الجزائرية حيث تزوج، ثم استدعاه السلطان المغربي “أبو عنان المريني” إلى مدينة فاس للعمل كاتباً له وكان ضمن مجلس العلماء، ثم أصبح أمين سره، فاستفاد من ذلك في طلب العلم من علماء المغرب والوافدين إليها من اﻷندلس. ولكن أفسدت الوشاية حاله وسُجن حتى أفرج عنه الوزير بعد وفاة السلطان، ثم عمل كاتباً عند خلفه لمدة أربع سنوات، ثم رحل إلى غرناطة في اﻷندلس عند “محمد الخامس الغني بالله” من ملوك بني اﻷحمر، وقد كان يعرفه في المغرب من قبل، فقربه وصار أيضاً صديقاً لوزيره.
ونتيجةً لخبرته وطول إقامته في المغرب، أرسله السلطان في سفارة إلى دولة قشتالة الإسبانية لعقد معاهدة سلام، وهي نفس بلاد إقامة أجداده من قبل، حتى إن ملك قشتالة من شدة إعجابه به قد عرض عليه البقاء فيها وإرجاع أملاك عائلته في إشبيلية. ولكنه رجع إلى غرناطة، ثم رحل منها إلى المغرب خوفاً من أجواء الدسائس. ثم عمل لدى أمير بجاية بمنصب الحاجب، وبالفعل كان محقاً بمخاوفه، فقد وقع بعد ذلك صراعٌ على الحكم، فطلب الرحيل خوفاً من شكوى الناس ضده، ولكن ألقي القبض على شقيقه.
ثم استدعاه ملك تلمسان “أبو حمو” الذي تصارع مع ملك بجاية ليساعده في بناء تحالف من القبائل ضد ملك بجاية فنجح بذلك، لكن أيضاً من جديد استنفر عليهم هذه المرة ملك المغرب اﻷقصى “عبد العزيز”، مما اضطر ابن خلدون للهرب مجدداً إلى غرناطة، ولكن ألقي القبض عليه، وقرر ابن خلدون بعد إطلاق سراحه اعتزال الناس مع الشيخ “أبو مدين”، ولكن السلطان “عبد العزيز” استدعاه مجدداً لجمع تحالف من قبائل بسكرة، فنجح ابن خلدون في ذلك وانتهت فترة من الاضطرابات في المغرب العربي. ثم بعد فترة عادت الاضطرابات فاضطرته للهرب للأندلس مرة ثالثة ثم العودة ومواجهة خطر السجن من جديد، وذلك في دوامة لا تنتهي، فقرر بالفعل اعتزال الحياة السياسية واعتذر عن مهمة جديدة كُلف بها لجمع ولاء القبائل، وهرب إلى قلعة ابن سلامة في مدينة تيارت الجزائرية واعتزل أربع سنوات حيث ألف فيها مقدمته الشهيرة.
ابن خلدون في مصر والشام
في سنة 779 هـ عاد إلى تونس فانهال عليه الطلاب ودعمه السلطان “أبو العباس” رغم الوشايات ليكمل كتابه في التاريخ “العبر”، ومع تزايد الوشايات قرر السفر إلى مصر سنة 784 هـ تحت غطاء الذهاب لأداء فريضة الحج، وهناك أيضاً انهال عليه الطلاب ليستفيدوا من علمه، كما أكرمه السلطان “الظاهر برقوق” ثم ولاه قضاء المالكية، فأمضى العدل وأصلح فساد القضاء، مما أوغر عليه صدور الكثيرين، وتصادف ذلك بغرق عائلته بالكامل في البحر عندما قرروا اللحاق به إلى مصر سنة 787 هـ، فطلب التفرغ للعلم والتدريس فتم له ذلك، حيث درّس في عدد من المدارس في القاهرة.
وفي سنة 803 هـ – 1400 م سافر إلى الشام في فترة حصار تيمورلنك لها، فلجأ إلى حيلة لإقناع تيمولنك بعدم تدمير دمشق، معتمداً على اعتقاد تيمورلنك بخرافات المنجمين، فأعجب تيمورلنك به وطلب منه البقاء، فوافق ظاهرياً واستأذنه بالذهاب إلى مصر ﻹحضار كتبه وأهله، فهرب لم يرجع، وهناك تمت إعادته لقضاء المالكية ثم عزله أكثر من ستة مرات حتى وافته المنية رحمه الله سنة 808 هـ وفي منصب القضاء.
ابن خلدون والتاريخ
كانت حياة ابن خلدون المتنوعة والثرية بمختلف المناصب واﻷحداث قد مكنته من تكوين رؤية ذات أفق متسع، باﻹضافة لاحتكاكه بآراء وثقافات وعلومٍ شتى، عدا عن فرصة تفرغه في قلعة ابن سلامة، كما كان العصر الذي عاش فيه خصباً مليئاً بفطاحل العلماء واﻷدباء. فكانت أهم إنتاجاته في التاريخ هو كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، حيث نظر للتاريخ كعلمٍ يستحق التحقق لا كمجرد رواية، وقد وضع قواعد علمية تساعد في اكتشاف الروايات الواقعية من المكذوبة، وبذلك يكون قد أسس منهجاً لنقد التاريخ، ثم تطور معه ليصبح فلسفة تاريخية يُقرأ التاريخ يُكتب في ضوئها.
ومما قاله المقريزي في وصف مقدمة هذا الكتاب: «لم يعمل أحد مثالها، وإنه لعزيز أن ينال مجتهد منالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم، ونتيجة العقول السليمة والفهوم، تُوقف على كُنْهِ الأشياء، وتُعرِّف حقيقة الحوادث والأنباء، وتُعبِّر عن حال الوجود، وتُنبئ عن أصل كل موجود». وهو موسوعةً تاريخية ثرية في سبعة مجلدات، وخاصة مقدمته التي اعتُبر بسببها مؤسساً لعلم الاجتماع، كما يعتبره بعض الغربيون أول كتاب في التاريخ مكتوبٍ بطريقة لا دينية، أي بمنهج أقرب ما يمكن للمنهج العلمي المحايد البعيد عن الخرافات التي سقط فيها بعض من سبقه من المؤرخين. كما امتاز بالاهتمام بالتأريخ للشعوب والحضارات وليس فقط للملوك والقادة العسكريين.
ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع
كان ابن خلدون كثيراً ما يتساءل عن علل الحوادث الاجتماعية والتاريخية وكأنها أحداث فيزيائية يريد التوصل إلى قوانينها، وهذا جعله يصل إلى كثير من الظواهر والطبائع في التغير الاجتماعي. ويعود للحضارة الغربية فضل اكتشاف أهمية ابن خلدون كمؤسسٍ أول لعلم الاجتماع، حيث أطلق عليه علم العمران البشري، جاعلاً الاجتماع البشري بحد ذاته موضوعاً للبحث والتحليل وفق المنهج العلمي، كما تعمق في ذلك إلى وضع أساسات علم السياسة والاجتماع السياسي، متناولاً نظرية العصبية وتأسيس الدولة من حياة البداوة إلى المدنية ثم الانحلال، ومن ثم عودة الكرة من جديد في دورة حضارية مستمرة، ويُعتبر علم العمران البشري مزيجاً من فلسفة التاريخ وعلم السياسة وعلم الاجتماع الحديث.
تحدث ابن خلدون بشكل أساسي عن نظرية العصبية القبلية والغلبة باعتبارها أساس الرئاسة وبناء الدولة الجديدة، والتي في أجيال لاحقة تتحول إلى الملكية التي تقوم على ولاء العديد من القبائل، وتحدث كذلك عن دورة حياة الدول التي تتكون من أربعة أجيال: جيل المؤسسين، ثم جيل المحافظين على اﻷمجاد بشكل جيد، ثم الجيل الذي يحافظ عليها بشكل ضعيف، ثم الجيل اﻷخير الذي يهدم كل شيء لانغماسه في الملذات وإهمال المحافظة على أسباب بناء المُلك. ومن أهم أفكاره أيضاً ربط العمران البشري بأسباب الكسب والمعاش من العلوم والمهن المختلفة في معرض الحديث عن مراحل تطور العمران البشري من مرحلة التوحش إلى البداوة ثم المدنية.
وكان كثيرٌ من معاصريه وخاصة المقيريزي من الذي قرأوا له كثيراً قد أعجبوا به، وهو نموذج ناجح لقراء كتب ابن خلدون، وهنا يثور تساؤلٌ: إذا كان كثير من التلاميذ قد أحاطوا به وقرأوا له فلماذا لم تستفد من علمه الحضارة الإسلامية؟ وهنا قد يصح حقاً أنه اكتشف هذا العلم نظرياً في وقت متأخر، وهكذا لم يسعف الحضارة اﻹسلامية بتحويله إلى علم تطبيقي لتستفيد منه في إطالة أمد حضارتها كما تفعل الحضارة الغربية حالياً.
ويبقى من المهم طرح التساؤل حول هل حقاً أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع؟ فقد سبقه كثيرون تحدثوا بأفكار وفلسفات اجتماعية، كما أن بعض الغربيين يتعبرون أوغست كونت ومن لحقه مثل دوركايم هم مؤسسوا علم الاجتماع، وهي مسألة دقيقة، حيث لا يمكن للمنصفين من الغربيين إلا اﻹقرار أن ابن خلدون هو أول من تحدث فيه بوصفه موضوعاً مستقلاً واتبع فيه منهجاً علمياً.
لكن مؤخراً ظهرت بعض اﻷصوات في جامعات المغرب خاصةً ترى أن علم الاجتماع علم كبير متعدد الموضوعات ويستحق أن يكون له عدة مؤسسين، سواء اعتبرنا أن كل مؤسس قد أسسا جانباً فيه، أو أن ابن خلدون قد وضع حجر اﻷساس وأكمل البناء من جاءوا بعده بقرون من الغربيين، ولعل عدم انفصال الفلسفة عن العلوم في عصر ابن خلدون، قد تشير إلى صحة ذلك.
المراجع
– ابن خلدون، إنجاز فكري متجدد. إعداد وتحرير محمد الجوهري ومحسن يوسف، مكتبة الإسكندرية. ص 5-8، 11-46، 71.
– حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية. محمد الخضر حسين.