من هو عبد الرحمن الداخل؟

من هو عبد الرحمن الداخل؟

هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي القرشي الملقّب بـ”عبد الرحمن الداخل” و”صقر قريش”؛ أسّس الدولة الأموية في الأندلس بعد انتهاء حكم الأمويين في الشام وانتقال الخلافة إلى يد العباسيين.

نشأته

وُلد عبد الرحمن بن معاوية سنة 113هـ في قرية دير حنا، وقيل وُلد بالعلياء من تدمر في بلاد الشام أثناء خلافة جدّه هشام بن عبد الملك الذي كفله وإخوتَه بعد وفاة أبيه الأمير معاوية بن هشام سنة 118هـ.

 ويُروى أن عبد الرحمن كان يتلقى معاملة خاصة من جدّه الخليفة، إذ كان يغدق عليه بالعطايا والهدايا لأنّ أخاه مسلمة بن عبد الملك رأى فيه علاماتٍ تدل على أنه المقصود من نبوءة وصلته بأن دولة بني أمية ستنتهي في الشرق وتعود إلى الحياة في الغرب على يديه.

سقوط الخلافة الأموية وفراره من الشام

اعتمد خلفاء بني أمية في حكمهم على العرب وتعاملوا بشدة وتعسّف مع الأجناس الأخرى من موالي فرس وبربر مغاربة ومسالمة ومولدين أندلسيّين، فمنعوا عنهم المناصب العليا وعاملوهم معاملة السيد للمسود، ولم يطبّقوا معهم مبدأ المساواة التي دعا إليها الإسلام.

تراكم الشعور بالحقد والحنق في نفوس الموالي، فاستجابوا لدعوة الشيعة إلى حصر الخلافة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغل العباسيون هذا الأمر فأخذوا يدعون لأئمتهم في السر. وهكذا، بدأت بوادر الإطاحة ببني أمية في الظهور، وسرعان ما اشتعلت الثورة عليهم في خراسان تحت لواء أبي مسلم الخراساني، فانتهى أمرهم وسقطت دولتهم وقامت مكانهم الدولة العباسية على يد أبي العباس عبد الله السفاح سنة 132هـ.

وسرعان ما بدأ العباسيون بتتبّع أمراء بني أمية وملاحقتهم في كل مكان فقتّلوهم رجالاً ونساءً وصبيانًا بلا رحمة، وقد استطاع عدد منهم الهرب لكن جلّهم عاد حين أظهر العباسيون الندم على الجرائم التي اقترفوها في حق البيت الأموي وأعلنوا منح الأمان لكل من بقي من أهله، وهكذا استأمن الخليفة السفاح حوالي ثمانين رجلا من الأمويين وأعطاهم العهود والمواثيق ثم قطع رؤوسهم جميعا في مذبحة نهر أبي فطرس.

وكان عبد الرحمن بن معاوية وأخوه يحيى مِن بين الهاربين القلائل الذين لم يتسرّعوا إلى قبول الأمان من العباسيين، فانتظرا ليعرفا حقيقة الأمر قبل الإقدام على قبول الأمان، فأرسل يحيى رسولاً ينظر في الأمر، فقدم يخبره بأنه شاهد قومه يُقتلون، لكن يحيى لم يتمكن من الهرب إذ أدركه العباسيون وقبضوا عليه وقتلوه، أما عبد الرحمن فقد لاحقه الجنود لكنه ارتمى في النهر وقطعه سباحة، فنجا منهم.

نزوله في إفريقية

نجح الأمير عبد الرحمن بن معاوية في الإفلات من بطش العباسيين، وسرعان ما لحق به غلام له يسمّى بدر وغلام لشقيقته اسمه سالم أبو شجاع ومعهما شيء من المال والجوهر، فانطلق معهما حتى بلغوا مصر، ثم واصلوا الطريق إلى إفريقية التي كانت حينئذ تحت ولاية عبد الرحمن بن حبيب الفهري.

 رغم ابتعاده عن مركز سيطرة العباسيين، إلا أن عبد الرحمن بن معاوية لم يكن في أمان لأن عبد الرحمن بن حبيب الفهري خاف أن يطمع الأمويون في منصبه فطاردهم وقتل كل من استطاع إليه سبيلا منهم. وهكذا، قضى الأمير الشاب أياما طويلة طريدًا شريدًا مُلاحَقًا من مكان إلى مكان، ولم يرتح حتى نزل عند أخواله  “نفزة” من بربر طرابلس.

دخوله الأندلس

أرسل عبد الرحمن بن معاوية سنة 136هـ غلامه بدر إلى زعماء موالي بني أمية في الأندلس ليطلب نُصرتهم، وكانت الأندلس حينها تحت إمارة يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب الفهري، وكتب بن معاوية إليهم كتابًا “يشكو فيه ما ابتلوا به ويعظّم عليهم حقه، ونزوعه إليهم وما صنع به ابن حبيب وبقومه بإفريقية، ويعلمهم أنه إن دخل إلى يوسف لم يأمنه، ويعرض أنه إنما يريد الاعتزاز بهم وأن يمنعوه، وإن تهيّأ لهم ما فيه طلب سلطان الأندلس، أن يُعلِموه”. 

بلغت الرسالة أبا عثمان عبيد الله ابن عثمان وأبا عبد الله بن خالد زعيمي حزب موالي بني أمية، فتناقشا الأمر مع رجال آخرين من موالي الأمويين وأجمعوا على الإرسال إلى زعماء اليمنية  لرؤية ما يمكن فعله، فاتفقوا على الإجابة وأبلغوه بالقبول. وهكذا، عبر عبد الرحمن بن معاوية البحر باتجاه الأندلس سنة 138هـ ، وحين وصل التفّ حوله أنصار بني أمية من الموالي واليمنية، وبايعه عدد كبير من الذين كرهوا يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فأقام في طرش يجمع الجنود ويعدّ الخطة لمواجهة يوسف، ثم سار في غرب الأندلس حتى بلغ إشبيلية وكان لا يمر بمنطقة إلا وبايعه أهلها حتى تضخّم جيشه.

التقى جيش عبد الرحمن بن معاوية مع جيش يوسف الفهري في معركة ملحمية بالقرب من قرطبة، واشتدّ القتال بين الطرفين وانتهى بهزيمة يوسف ودخول عبد الرحمن إلى قرطبة منتصرًا، وكان ذلك يوم جمعة، فخرج إلى المسجد وصلّى بالناس، ثم نصّب نفسه أميرًا على الأندلس.

ثورة يوسف الفهري

لم يتقبّل يوسف خسارته أمام عبد الرحمن، فاتجه إلى طليطلة ليحشد الجنود ومضى حَليفُه الصميل بن حاتم إلى جيان ليعدّ جيشه أيضا، ثم اجتمع الجيشان في جيان وأراد يوسف اجتذاب بن معاوية إليه كي يتمكن ابنه عبد الرحمن أبو زيد الفهري من احتلال قصر الإمارة في قرطبة، وهذا ما حدث؛ فما إن خرج عبد الرحمن بن معاوية من قرطبة حتى أغار عليها أبو زيد وسَجَن أبا عثمان الذي بقي لحماية قرطبة بأمرٍ من بن معاوية.

لمّا سمع عبد الرحمن بما حدث في قرطبة، سارع بالعودة إليها، لكن أبو زيد كان قد فرّ محتجِزًا أبا عثمان. هذه المرة، قرّر عبد الرحمن استخلاف عامر بن علي في القصر، ومضى للقاء يوسف وجيشه في إلبيرة، وما إن وصل إلى إحدى قراها حتى أعلن يوسف الفهري والصميل بن حاتم استسلامهما على أن يأخذا منه الأمان لهما ولأموالهما وللناس كلهم، فقبل عبد الرحمن طلبهما واتفق معهما على أن يُفرِجا عن أبي عثمان مقابل إفراجه عن خالد بن زيد، وأن يقيما في قرطبة.

رغم أن عبد الرحمن بن معاوية أوفى بعهده وأحسن معاملة يوسف الفهري وحاشيته، إلا أن هذا الأخير انقلب عليه بعد عام واحد، فخرج من قرطبة سنة 141هـ ناكثًا عهده وشرع في جمع الجنود وحشد الجيش لمواجهته.

عندما جهز جيش يوسف الفهري، تقدّم إلى إشبيلية وحاصر واليها عبد الملك بن عمر المرواني ومن معه، لكنه تركهم إذ لم يكونوا ذوي عدّة وعتاد وفضّل لقاء جيش بن معاوية. وهنالك أرسل عبد الملك المرواني إلى ابنه الذي كان واليا بمرورو، فقدم إليه بجيش كثيف واتجهوا لمواجهة يوسف الفهري، ودارت بينهما معركة انهزم فيها الفهري مرة أخرى، فهرب ليحتمي في طليطلة لكن عبد الله بن عمر الأنصاري أدركه وقطع رأسه وأرسله إلى عبد الرحمن بن معاوية، وهكذا انتهت حياة يوسف الفهري لكن الثورات ضد الأمير الجديد لم تنته.

حُكمه

تميّزت فترة إمارة عبد الرحمن بن معاوية باندلاع الكثير من الثورات في مختلف ربوع الأندلس؛ فقد ثار هشام بن عروة الفهري سنة 144هـ، والعلاء بن مغيث اليحصبي سنة 146هـ، كما ثار عليه كل من سعيد اليحصبي المطري وأبو الصباح بن يحيى اليحصبي سنة 149هـ، ثم سفين بن عبد الواحد وحيوة بن ملامس الحضرمي سنة 152 هـ، وعبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 163هـ، و ابن أخيه المغيرة بن الوليد سنة 168هـ.. ولعلّ أهم المؤامرات التي دُبّرت ضده كانت ناتجة عن اتفاق بين ثوار من الأندلس والخليفة العباسي محمد المهدي مع ملك فرنجة شارلمان بن بيبان، لكن عبد الرحمن بن معاوية تمكّن من إحباط كل الخطط التي نُسِجت ضده، وقضى على كل الثورات والثوار الذين أشعلوها، واحتفظ بالإمارة طوال ثلاث وثلاثين سنة.

ويعدّ الأمير عبد الرحمن الداخل –الذي لقّب بهذا الاسم لكونه أوّل مَن دخل قرطبة مِن بني أمية حاكمًا- مؤسّس أركان الحضارة الإسلامية في بلاد الأندلس؛ فقد فرض النظم الإدارية بطريقة مشابهة لما كان معمولاً به في الدولة الأموية في الشام، واتّخذ لنفسه مجموعةً من الحجّاب بدل الوزراء، وكان يستشيرهم في جميع أمور الدولة ويأخذ برأيهم، وجمع الجند وحشد الجيش حتى ضمّ مئة ألف جندي من المتطوّعين والمرتزقة.

 واعتنى بالحركة العمرانية والهندسة المعمارية، فأنشأ قصر الرصافة الذي سمّاه بهذا الاسم تيمّنًا برصافة جدّه هشام بن عبد الملك، وجعل لهذا القصر حديقة بديعة جلب إليها أنواعًا كثيرةً من الأشجار والزروع والثمار من كل مكان، واعتنى بها عنايةً خاصة حتى صارت من أبهى وأبدع الحدائق التي عرفها التاريخ الإسلامي. أما القصر فقد شيّده على الطابع الشرقي واعتمد في إنشائه على العناصر المعمارية والطرق الزخرفية التي اشتهرت بها قصور الأمويين في الشام. كما بنى جامع قرطبة سنة 169هـ بعد أن ضم إليه الكنيسة التي كانت بجواره، وجعله مشابها للمسجد الأموي في دمشق.

وكان عبد الرحمن الداخل حاكمًا قريبًا من رعيته يستمع للعامة ويحكم فيما بينهم بنفسه، وكان حكيمًا فأنقذ البلاد من الصراعات العنصرية والنزاعات القبلية، فاستحق مدح العدو قبل الصديق إذ لقّبه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بـ”صقر قريش” وقال عنه:

“لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه و قوة أسبابه، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذي الفذّ في جميع شؤونه، و عدمه لأهله و نشبه، و تسلّيه عن جميع ذلك ببعد مَرقى همته، و مضاء عزيمته، حتى قذف نفسه في لجج المهالك لابتناء مجده، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل، نائية المطمع، عصبية الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، و قمع بعضهم ببعض بقوة حيلته، و استمال قلوب رعيتها بقضية سياسته، حتى انقاد له عصيّهم، و ذلّ له أبيّهم ، فاستولى فيها على أريكته، ملكا على قطعته، قاهرا لأعدائه، حاميا لذماره، مانعا لحوزته، خالطا الرغبة إليه بالرهبة منه، إن ذلك لَهُو الفتى كلُّ الفتى لا يكذب مادحه.”

وفاته

توفي عبد الرحمن الداخل يوم 24 ربيع الآخر عام 172 هـ، ودُفن في قصر قرطبة بعد أن صلّى عليه ولده عبد الله،  وخلفه من بعده ولده هشام بعهدٍ من والده.

المصادر

1. كتاب “تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس من الفتح العربي حتى سقوط الخلافة بقرطبة” للمؤرخ الدكتور السيد عبد العزيز سالم.

2. كتاب “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” للمقري التلمساني.